يوميات "فيسبوكية": جميعهم نقّادٌ لكنّ النقدَ قليل

يوميات "فيسبوكية": جميعهم نقّادٌ لكنّ النقدَ قليل

24 ابريل 2020
"بارازيت": مُثير لانشقاق في الرأي والمُشاهدة (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
يحفل الـ"فيسبوك" بتعليقات سينمائية كثيرة. يتباهى بعض كاتبيها بضلوعٍ "عميق" في أحوال السينما، صناعة وإنتاجاً ومُشاهدة. يقول هذا البعض، ولو ضمناً، إنّ له معرفة وخبرة تتيحان له تعليقاً أو أكثر عن فيلم أو أكثر، وعن مخرج أو أكثر، وعن قضية أو أكثر. تتحوّل السينما معه أحياناً إلى هاجسٍ، فيُنظِّر مُطلقاً اتّهامات عشوائية، أو يتأمّل فيُحلِّل ويناقش بهدوء، والذين يمارسون التأمّل قليلون في "زحمة" مثيري ضجيجٍ من أجل لا شيء. أو ربما من أجل لفت انتباه، لا أكثر.

العزلة المنزلية، المفروضة على كثيرين بسبب تفشّي وباء "كورونا"، عاملٌ يزيد من حدّة المشهد الـ"فيسبوكيّ" وعنفه اللفظيّ، لامتلاكهم فرصاً عديدة لمُشاهدات متنوّعة، وبعض المُشاهدات متعلّق بأفلام قديمة، فيُتاح لهؤلاء تنفيس بعض توتّرٍ، عبر تعليقات تدّعي معرفة ووعياً، مع أنّها تمتلك كلّ شروط التسطيح والفذلكة والتباهي بأنّ ما يملكه هؤلاء "حقيقة مطلقة" و"معرفة شاملة". أما الآخرون ـ بعُرْفِ هؤلاء أنفسهم ـ فجهلة ينساقون إلى مواقف الأكثرية إزاء فيلمٍ أو مخرج أو قضية من دون دراية، ما يدفع هؤلاء إلى قولٍ يعتقدون أنّه يُنقذ "الجهلة" من ضلالهم.

معروفٌ أنّ السينما أكثر الفنون شعبية وانتشاراً في الأوساط والطبقات والفئات كلّها تقريباً. حتّى غير المتمكّن من الذهاب إلى الصالات لمُشاهدة الأفلام، في زمن ما قبل "كورونا"، يُمكنه متابعة السينما عبر قنوات تلفزيونية، فجهاز التلفزيون حاضرٌ في المنازل كلّها. والذين يقدرون، يُعلّقون غالباً على ما يُشاهدون في صفحاتهم الخاصة بـ"فيسبوك"، قبل "كورونا" وفي أثناء تفشّيه في العالم. فتُصبح وفرة التعليقات وتناقضاتها مادةً لمعاينةٍ تكشف شيئاً من علاقة كاتب التعليق بهذا الفضاء الافتراضي، وإنْ انبثقت علاقته به من واقع حيويّ تصنعه السينما بحركة إنتاجها ومساراتها وانشغالاتها.

للـ"فيسبوك" لغته غير المحدّدة وغير المحاصرة بمفردات وأصول. لا رقابة، ذاتية وجماعية، تُفرض عليها. لا منهج ولا قواعد ولا منطق يُحدِّد كيفية استخدامها في فضاء مفتوحٍ على كلّ شيء. إدارة "فيسبوك" تملك حقّاً في إغلاق صفحة ما لسببٍ تراه هي غير لائق بها، بعد تقرير يُرسله أحدهم ضد آخر. هذا معلومٌ. لكن استعادته هنا متأتّية من تأكيد أنْ لا شيء يحول دون استخدام تعابير وطرق كتابة، باستثناء تقرير أحدهم ضد آخر، فتُغلق صفحة الآخر ساعاتٍ أو أياماً أو أسابيع.

انعدام كلّ قاعدة أو قانونٍ أو منطقٍ للـ"فيسبوك" يُتيح للجميع أنْ يُصبحوا نقّاداً سينمائيين (وغير سينمائيين). هذا من دون الإشارة إلى الـ"ثقة" الهائلة لكثيرين بأنفسهم، تلك الثقة التي تجعلهم "يُفْتون" في السياسة والاجتماع والاقتصاد والفن والإعلام وتفاصيل العيش. انعدام كلّ قاعدة أو قانونٍ أو منطقٍ يسمح للجميع بأقوالٍ في السينما تتضمّن، غالباً، تقريعاً بمن يهزأون من كونه ناقداً أو عارفاً له تجربة في المهنة وأسسها وحاجاتها ومفرداتها. والتقريع مباشرٌ أو غير مباشر، فبعض المقرّعين غير قابل بذكر اسم ناقدٍ يهاجمه لمجرّد اختلاف معه في رأي أو موقف أو تحليل. يُقرّع، مُكتفياً بجملٍ قليلة، تُكتب غالباً بلغة عربية تميل إلى المحلّية كثيراً، إذْ لا وقت يُضيّعه على كتابة سليمة، تقول رأياً سليماً، أو هكذا يُفترض بها أنْ تفعل. لا وقت له، ولا رغبة لديه أيضاً.

كلّ مُشاهدٍ سينمائي ناقدٌ. هذه قناعة شخصية. المُشاهد السينمائي، أو بحسب التعبير الفرنسي "سينيفيلي"، ناقدٌ حقيقيّ، وإنْ اكتفى بقول ونقاش يُثيران متعةً وحيوية إضافيتين. المُشاهد السينمائي يتفوّق أحياناً على نقّادٍ عديدين، فهذا طبيعي لانتماء كلّ واحد منهم إلى ثقافة ومزاج وانفعالٍ ونمط تفكير ومُشاهدة. النقّاد مشاهدون أيضاً، لكن المهنة تفرض عليهم كتابة يُفترض بها أنْ تمتلك شرطها السجاليّ، وأنْ تتمكّن من لغة ومنطق ووعي معرفي. غير أنّ كَتَبة تعليقات سينمائية "فيسبوكية" غير مكترثين بشيء، و"فيسبوك" يُشعِرهم بأنّ لديهم مساحة واسعة جداً من الحرية، فيمارسونها كيفما كان.

الأسوأ من هذا أنّ معلّقين "فيسبوكيين" يعملون في الثقافة والفنون، لكنّهم في الفضاء الافتراضي غير متردّدين في ممارسة تلك الحرية بأبشع ما يُمكن، مستخدمين لغة ركيكة، شكلاً ومضموناً، في تعليقاتٍ يظنّون أنّها سينمائية، فإذا بها كلامٌ للتقريع والتباهي بمعرفةٍ في شأنٍ سينمائي. المأزق كامنٌ في أن تعليقات كثيرة كهذه تشتم نقّاداً في أثناء شتمها سينمائيين وأفلاماً، وتُقرّع سينمائيين في مهاجمتها نقّاداً وأفلاماً. الأسوأ من هذا أنّ معلّقين عديدين يُظهرون رفضاً لأفلامٍ يُجمع عليها نقّادٌ ومشاهدون، فيتفنّنون في التعبير عن رفضهم بمفردات غير لائقة. أما الحجج، التي يجب أن تكون نقدية تُثير نقاشاً، فتغيب لمصلحة تعابير عامة، يميل بعضها إلى شتمٍ مُبطّن أو مباشر، فالشتم أسهل وأسرع وأقدر على إثارة آخرين، فيقرأون ويوافقون، ولعلّ الموافقين يُزايدون على كاتبي التعليقات بمواقف لن تكون "راديكالية"، بل مسطّحة وساذجة بشتائمها وتقريعاتها.

كأنّ لسان حال هؤلاء يقول: "أنا المختلف، فانتبهوا إليّ". أما السينما، فإحدى وسائل إثارة انتباهٍ كهذا.

دلالات

المساهمون