Skip to main content
يوليو والنساء (2-2)

كشكول

بلال فضل
حين اتسع وتضاعف حضور جيهان السادات عقب وصول زوجها إلى كرسي الرئاسة، وانفراده به بعد أحداث مايو/أيار 1971، لم يلجأ معارضو السادات إلى استدعاء صورة زينب الوكيل التي كانت قد تلاشت تقريباً من الأذهان، لكنهم لجأوا إلى استدعاء صورة تحية كاظم، وركزوا على تمجيد انعزالها عن الأضواء، في مقابل مزاحمة جيهان لزوجها في الأضواء بشكل استفز محافظة الكثيرين ومشاعرهم الذكورية، وهي مقارنة أثارت ضيق جيهان السادات التي اعتبرت أن مقارنتها بالسيدة تحية مقارنة ظالمة لأن "السيدة تحية لم تكن تمارس أي دور اجتماعي بإرادتها" على حد تعبيرها، في حين أن جيهان بدأت ممارسة دورها الاجتماعي في عهد عبد الناصر، ثم واصلته في عهد زوجها مقتصرة على الجوانب الاجتماعية والنسائية وأنها فيما عدا سعيها لدعم حقوق المرأة، لم تتدخل أبداً في قرارات زوجها السياسية كما ادعى الكثيرون، لأن أنور السادات كما قالت: "كان سياسياً محنكاً ولم يكن ليحتاج إلى تدخل أحد حتى لو كانت زوجته". 

من هنا تأتي المفارقة، فتحية قرينة عبد الناصر التي عاشت وماتت في الظل، لم تعرف طريقها إلى الأضواء، إلا حين استأثرت جيهان قرينة السادات بالأضواء كاملة، خصوصاً حين تصاعدت حركة المعارضة للسادات وقراراته السياسية، فحين رقصت جيهان السادات رقصتها الشهيرة المفاجئة مع الرئيس الأميركي جيمي كارتر عقب توقيع معاهدة كامب ديفيد، لم يتذكر الكثيرون زينب الوكيل التي كانت صورها في الحفلات الراقصة تستفز الكثيرين للهجوم على زوجها مصطفى النحاس في الصحافة المعارضة للوفد، خصوصاً حين نشرت لها أكثر من صورة في بعض الحفلات وهي تضحك مع المندوب السامي البريطاني، بل تذكر هؤلاء تحية كاظم التي لم تنشر لها إلا صور نادرة خلال حفلات استقبال وتوديع رسمية لرؤساء الدول الزائرة إلى مصر، وبعد مصرع السادات وتولي خليفته مبارك للحكم، زادت نجومية تحية عبد الناصر، وتم الاحتفاء أكثر  بحكايات مثل التي روتها ابنتها الدكتورة هدى عبد الناصر في حوار لها عن أن والدها كان يتعامل مع والدتها بعقلية المصري الصعيدي، فحين تطلب منه شيئاً يشعر أنه شيئ غير عادي، كان يقول لها برقته الباسمة ونعومته التي تنطوي على الحزم: "الله جرى إيه يا مدام انتي نسيتي ولا إيه" فتعرف أنه يرفض طلبها. 

على عكس ما جرى في حياة عبد الناصر من تحفظ في نشر ما كتبه الأميركان في مديح تحية، تبارت الصحف المصرية والعربية في نشر ما كتب عنها في كتاب أميركي عن عبد الناصر حمل عنوان (الرئيس)، كانت الهيئة العامة للاستعلامات قد ترجمته، وجاء فيه عن السيدة تحية كاظم ما يلي: "السيدة قرينته عرفت بأنها زوجة غير معروفة لدى الشعب، من بين زوجات جميع رؤساء دول العالم، وهذا هو ما يريده لها زوجها، وفي خلال السنوات التي تلت الثورة، لم تقم مؤتمراً صحفيا ولم تعط صورها للجرائد ولم تحضر أي حفلة رسمية... والدها عبد الحميد أفندي كاظم كان يعمل "رفّا" يرتق السجاد العجمي، وكان صديقا لعبد الناصر منذ أن كان عبد الناصر يعيش مع عمه خليل في حارة اليهود، وعندما تقدم جمال لخطبتها طلب من أبيها أن يعرف رأي تحية ابنته فيه أولاً، فقد كان يخشى أن ترفضه لان شكله ليس جذاباً، وكان يخشى تكرر ما حدث له، عندما حاول التعرف على إحدى قريبات صديقه عبد اللطيف البغدادي، التي رفضت عبد الناصر لأن شكله منفر وله أنف كبير، أما تحية فقد وافقت على عبد الناصر فقدم لها جراموفون ومجموعة أسطوانات كهدية للزواج".  

في حوارها مع مؤلفة الكتاب الأمريكي، قالت السيدة تحية كاظم إنها لم تكن تعرف موعد قيام الثورة ولا أي شيئ عنها، وأن عبد الناصر خلال فترة الإعداد للثورة أحضر صندوقاً كبيراً إلى البيت ووضعه تحت سريرهما، وحين سألته تحية عما بداخل الصندوق، قال لها منفعلاً: "مالكيش دعوة بيه.. ده صندوق برتقال"، وعندما أرادت في أحد الأيام أن تعصر له برتقالتين قبل عودته إلى البيت اكتشفت أن الصندوق مليئ بالقنابل اليدوية، فقررت أن تتعامل مع الموضوع كأنها لم تر شيئاً وتجاهلت الموضوع تماماً. 

على العكس من ما قالته تحية، حين نشرت جيهان السادات مذكراتها (سيدة من مصر) قالت إنها كانت على علم بالإعداد للثورة، وأن "أنور" كان يحكي لها تفاصيل لقاءاته مع عبد الناصر، لكنها في الوقت نفسه نفت علمها بموعد قيام الثورة، في إطار سردها لتفاصيل ذهابها هي وأنور إلى السينما ليلة الثورة، والذي تم استغلاله فيما بعد من خصوم السادات للتأكيد على رغبته في الإفلات من عواقب الاشتراك في الثورة إن فشلت. ومع أن زوجة خالد محيي الدين كانت قد قالت في حوار نشرته صحيفة (الأهالي) لسان حال حزب التجمع أنها كانت تعرف باشتراك زوجها في تنظيم الضباط الأحرار، إلا أن ما قالته جيهان في مذكراتها تم استخدامه من خصوم السادات للهجوم على السادات "الضعيف تجاه زوجته"، بعكس عبد الناصر "القوي" الذي لم يفش سر الثورة لزوجته، ولعل ما كان يتم نشره في الصحف والمجلات، أهون بكثير مما كان يقال بحق السادات، الذي تحولت زوجته إلى سلاح يستخدمه خصومه ضده في مجتمع شديد الذكورية والمحافظة، وهو ما سبق أن تطرقت لبعض تفاصيله فيما كتبته عن حياة السادات، وأيضاً في حواري مع السيدة جيهان السادات عام 1999، والذي أعدت نشره في صحيفة "العربي الجديد" قبل سنوات، وستجده متاحاً على الإنترنت إن رغبت.

المثير للدهشة أن المرأة الأكثر شهرة وحضوراً بين نساء ثورة يوليو، لم تكن من اللواتي لعبن دور البطولة مثل تحية وجيهان، حتى وإن كانت بطولتهن شرفية إلى حين، بل كانت واحدة من "كومبارس التاريخ" طبقاً للوصف العبقري الذي أطلقه الأستاذ صلاح عيسى، وهي الفنانة برلنتي عبد الحميد التي أصبحت قصتها مع زوجها المشير عبد الحكيم عامر أشهر القصص النسائية في تاريخ الثورة وأكثرها إثارة للغط والجدل، برغم أن علاقتهما كانت شرعية "على سنة الله ورسوله"، بعكس بعض العلاقات التي خاضها رجال الثورة مع فنانات وسيدات مجتمع، وصلت إلى حد تطليق زوجة من زوجها ليحظى بها ضابط كبير، وهو ما حدث للسيدة سهير فخري التي تم إجبارها على طلب الطلاق من زوجها الكاتب والمنتج السينمائي الشهير محمد كامل حسن المحامي ليتزوجها سكرتير المشير عامر وكبير حرسه عبد المنعم أبو زيد، ويتم إيداع زوجها مستشفى الأمراض العقلية. ـ بالمناسبة رحلت عن دنيانا في العام الماضي ـ 

بالطبع لا تتسع هذه القراءة السريعة لإيراد الكثير مما قيل عن التأثير السياسي لبرلنتي عبد الحميد على زوجها الرجل الثاني في حكم مصر، لكن من المهم أن أشير إلى أن كثيراً مما روي عن ذلك التأثير، لم يشارك فيه خصوم ثورة يوليو وحدهم، بل شارك فيه عدد من عتاة الناصريين، الذين يتصورون أن تركيزهم على التأثير الطاغي لعبد الحكيم عامر الذي كان "دولة داخل الدولة" يمكن أن يعفي جمال عبد الناصر من مسئوليته السياسية، عن تمكينه صديق عمره عبد الحكيم عامر ومنحه كل ذلك النفوذ، وبرغم أن مهاويس عبد الناصر يبالغون في تصوير نفوذه العربي والعالمي، ويفرطون في الحديث عن نظرات عينيه الأخاذة التي تجعلك لا تقوى على النظر في عينيه أكثر من ثوان، فإنهم فجأة ينسون كل ذلك حين تأتي سيرة عبد الحكيم عامر، ليصبح عبد الناصر فجأة أضعف من أن يقوم بالتأثير فيه أو السيطرة عليه، ولذلك تجدهم يميلون إلى تضخيم التأثير السياسي الذي كانت تمارسه برلنتي عبد الحميد على زوجها عبد الحكيم عامر، ثم يغضبون بشدة حين تقول لهم أن ذلك يعني أن برلنتي عبد الحميد كانت أقوى من جمال عبد الناصر شخصياً، لأن ذلك التصور لا يناسب نظرتهم المحبة للرئيس الصعيدي الحمش الذي لا يعجبه الحال المايل، ولا يرضيه أن تخرج زوجات زملائه عن حدودهن السياسية. 

في كتابه (ناصر وعامر) يورد الأستاذ عبد الله إمام مؤسس صحيفة (العربي) الناصرية ورئيس تحريرها لسنين طويلة بعض تفاصيل محاضر التحقيقات التي تم تقديمها للمحكمة الخاصة التي شكلها عبد الناصر عقب هزيمة 1967، والتي جاء فيها أن معظم الاوراق الرسمية التي كانت تعرض على المشير عبد الحكيم عامر ليوقعها، كانت تذهب إليه في منزل برلنتي عبد الحميد، وتظل لديه حتى اليوم التالي، ليقول عبد المنعم أبو زيد كبير حرس المشير إن تلك الأوراق كان يتم العثور على بعضها متناثراً في حديقة الفيلا، وحين عرف المشير بذلك غضب أكثر من مرة، لكن أبو زيد لم يرجع ذلك لإهمال المشير، بل لتعمد برلنتي أن تسوء العلاقات بين المشير وبينه، مع أنها كما قال أبو زيد كانت تتظاهر بأنه ربما كان أولاد البواب إسحاق هم السبب في بعثرة الاوراق في حديقة الفيلا.

يحكي عبد الله إمام في كتابه أيضاً أن مسئول منظمة الشباب في حي عابدين، وجد على باب بيته ورقة مكتوبة بالماكينة تقول إن المشير عبد الحكيم عامر يتردد على السيدة برلنتي عبد الحميد في السر وأنها على وشك أن تنجب منه، فأسرع بالورقة إلى قائده في منظمة الشباب حسين كامل بهاء الدين والذي أصبح بعد ذلك وزيرا للتربية والتعليم، والذي ذهب بالورقة بدوره إلى رئيسه علي صبري، والذي أرسل الورقة إلى شعراوي جمعة وزير الداخلية لإجراء التحريات التي تم جمعها في ملف وصل إلى عبد الناصر الذي كان يعرف بزواج عبد الحكيم عامر وبرلنتي حسبما يؤكده محمد حسنين هيكل وصلاح نصر في شهادتيهما، ليثير ما حدث غضب عبد الحكيم عامر، لأنه اكتشف أن أجهزة الأمن تراقبه مثل غيره من المواطنين، لكن عبد الناصر امتص غضبه، وكرر ما طلبه من صديقه عامر، بأن لا يعلن زواجه ببرلنتي عبد الحميد لكي لا يدخل الثورة في دائرة القيل والقال لدى أفراد الشعب، وهو ما يشير إلى ما اعتبره هيكل في كتابه (الانفجار) مظهراً من مظاهر الضعف الإنساني الذي كان يشعر به ناصر تجاه صديقه عامر، وهو ضعف لم يدفع الاثنان ثمنه لوحدهما للأسف الشديد.  

حين تأتي سيرة الدور السياسي للنساء في ثورة يوليو، ستجد بالطبع من يحب أن "يكفي على الخبر ماجور"، مكتفياً بالإشارة إلى بعض الإنجازات التي حققتها الثورة للمرأة المصرية، والتي يحب البعض تصويرها بوصفها منحة قدمتها الثورة لنساء مصر، دون إشارة إلى التاريخ النضالي الذي لعبته المرأة المصرية منذ مطلع القرن العشرين لنيل حقوقها السياسية والاجتماعية، وهو ما لا يمكن فصله عن محاولة تصوير مصر كأنها كانت "صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء قبل ثورة يوليو"، وهو تصوير يشبه في خطله وهطله محاولة تصوير مصر كأنها كانت "جنة الله في أرضه قبل ثورة يوليو"، ستجد أيضاً من يتعامل مع أي محاولة لفتح ملف "نساء ثورة يوليو" بوصفها دخولاً في الأعراض، حتى لو كان بعض هؤلاء لا يتورع عن الخوض في أعراض خصومه السياسيين، وهو ما لن يمنع الباحثين والكتاب من أبناء الأجيال التي جنت عليها سياسات ثورة يوليو من فتح كافة ملفاتها بما فيها هذا الملف المهم الذي لم يأخذ حقه من الدراسة حتى الآن. 

صحيح أن البعض يعتبر أن ثورة يوليو انتهت عملياً بنجاح السادات في تثبيت أركان حكمه في مايو 1971، ويعتبر كل ما بعده ثورة مضادة، في حين يرى أن السادات ومبارك والسيسي من بعدهما يمثلون استمراراً لنظام 23 يوليو الذي يستسهل البعض وصفه بأنه "حكم العسكر"، وبرغم أن كل عهد من هذه العهود يحمل سماته الخاصة التي تفصله عن سابقيه ولاحقيه، إلا أنني أعتقد أن تعامل هذه العهود مع المرأة حافظ على فكرة استخدامها كديكور سياسي، يساعد النظام على تحسين موقفه السياسي أمام الغرب، إما لإظهار التفوق الحضاري الذي تنعم به مصر، أو للمساعدة في جلب المزيد من المعونات والمنح والقروض، وأن تحقيق مساواة حقيقية للمرأة المصرية ومشاركة سياسية فعالة لها في الحياة العامة، لا زال حلماً بعيد المنال، ومثل غيره من الأهداف والأحلام التي أيد المصريون ثورة يوليو من أجلها، لن يتحقق هذا الحلم/الهدف بوصفه هبة رئاسية أو منحة ذكورية يتم استخدامها في العادة لإسكات أي أصوات تطالب بالمزيد من الحريات، وتطالب بفتح ملفات الماضي الأليم الذي لا زلنا ندفع أثمانه الباهظة حتى الآن.