يحيا السوريون السذج

يحيا السوريون السذج

22 يناير 2017
+ الخط -
حينما كنت في حلب ومن ثم دمشق، لم ألتق أبداً بأحد من "الخبراء الاستراتيجيين الدوليين". كنت أسمع بهم: باحثون من جنسيات مختلفة يعملون مع مراكز دراسات عالمية. أسمع أنهم يتوافدون بتواتر إلى دمشق، وأن كلمتهم مسموعة في المجتمع الدولي. يقال إن تقاريرهم ودراساتهم تمنح العون لوزارات الخارجية. يقال إنهم محل ثقة وخبرة. يقال إن هؤلاء، حين يصلون سورية، فإن وقتهم الثمين يتسع بالكاد للقاء بأعضاء مخصصين هم "رموز المعارضة" و"أصحاب القرار". لست من رموز المعارضة بالتأكيد، ولا أعرف هويتهم، لكنني أعرف من هم أصحاب القرار في دمشق. 

في عام 2014، قادتني المصادفة والعلاقات المتشعبة إلى لقاء مدير مكتب المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في دمشق. لم يكن مكتباً بالفعل، بل طابقاً كاملاً في فندق "الفورسيزن". حسب ما شرح لنا آنذاك، كان مكتبه يتألف من ستة أشخاص، أما رجال الأمن فمن الصعب إحصاؤهم. هناك التقيت، للمرة الأولى في حياتي، بأحد الخبراء الاستراتيجيين، قدم زائراً لمناقشة "الملف السوري". لا أدري بالضبط متى تحولت الثورة السورية إلى "ملف"، قلت له، لكنها بالنسبة للسوريين قضية في غاية البساطة والمباشرة. رمقني بنظرة لم أفهم معناها وقتها، وأخبرني أنه سيرسل إلي دعوة لحضور ورشة عمل في جنيف تضم "نخبة" من "الناشطين" السوريين، وأنهم قد يستفيدون من آرائي باعتباري "مصدراً من الداخل".

في شباط/فبراير 2014، كنت ممتلئاً بالحماس، وقبل سفري إلى جنيف كنت قد جهزت ورقة بحثية مطولة (بعض الشيء) عن آمال وطموحات السوريين وإحساسهم بعدم التمثيل. كتبت عن ضرورة إيجاد بديل تمثيلي حقيقي للائتلاف السوري، وضرورة إشراك السوريين في الحديث عن أنفسهم. وختمت بالحديث عن أهمية استغلال الانتخابات الرئاسية السورية في 2014 لإعادة "تصفير" النهج السياسي لطرفي المفاوضات. أرسلت الورقة إلى مركز الدراسات في جنيف مع طلب اللقاء الشخصي لمناقشتها.

في جنيف وبعد الإشارة إلى أن ورقتي "جيدة"، كان باقي اللقاء للحديث عن أولوية المركز الحالية، وهي خطة مطولة تهدف إلى تحقيق هدنة شاملة في سورية، مع كثير من الشرح عن المجتمع الدولي والعلاقات الدولية المتشابكة وأهمية التوازن الإقليمي... إلخ. كان هذا أول وآخر لقاء لي مع هذه المجموعة من "الخبراء الاستراتيجيين"، الذين يضعون خططاً مطولة ويحسبون حساب "التجاذبات العالمية". بالطبع لم أدع مجدداً إلى مؤتمرات "النخب الناشطة"، وأظن أن رأيي هذا كان يحسب ضمن الآراء الساذجة التي تؤمن أن للسوريين دوراً في بلادهم.

اليوم، بعد سنوات مريرة، تبدو الأمور أوضح لكثيرين، لكن الساذجين ما زالوا موجودين. أولئك الذين يتهمون "معارضتهم" بالتراخي ويقفون في وجه تجاوزات "ثورية" ويقضون ساعاتهم في الدفاع عن "صورة الثورة" في وجه من يشوهونها. أولئك الذين ينظر إليهم المجتمع الدولي ومجموعة ضخمة من ناشطي "المجتمع المدني" بوصفهم سذجاً متعلقين بدور وهمي لهم في صناعة مستقبل بلادهم. ما يزال هؤلاء موجودين، وقد يستثيرون سخرية البعض لإصرارهم على الحديث عن "الثورة" و"الحرية" و"إنهاء الاستبداد" بدل الانخراط في موجة الحديث عن "بناء القدرات" و"التنمية المستدامة" و"توازن القوى".

هؤلاء، هم آخر ما تبقى من الثورة – الفكرة. أنا من هؤلاء! وسأبقى من هؤلاء مهما اختلفت الأساليب والأفكار والمآلات. طوبى لهؤلاء الذين ينتقدون "ثورتهم" إذ ما زالوا مؤمنين بوجودها. طوبى لهؤلاء الذين لم يبتلعهم بعد محيط المصطلحات الميكانيكية الرنانة المعدنية، الذين لا تعنيهم استدامة العبودية ولا يقبلون باستبداد أسدي أو داعشي أو إقليمي أو عالمي. يحيا السوريون السذج!

B41766CD-B583-4134-BA8B-428994189FC2
B41766CD-B583-4134-BA8B-428994189FC2
نائل حريري

طبيب وكاتب ومترجم سوري، يكتب في عدد من الصحف العربية، وعمل بالترجمة مع عدد من دور النشر العربية

نائل حريري