يحدث الآن في مصر: إلغاء العقل

يحدث الآن في مصر: إلغاء العقل

21 اغسطس 2020
معرض الكتاب في القاهرة: أين الترجمات؟ أين السينما؟ (محمود شاهين/ نور فوتو/ كوربيس/ Getty)
+ الخط -

مصر منشغلةٌ هذه الأيام بأمور كثيرة، بينما المطلوب أهمّ لكنّه غائبٌ. "كورونا" يضرب بقوة. العالم يعيش تبدّلات، بعضها خطر. فقراء الناس يزدادون عدداً وآلاماً. أغنياؤهم يزدادون بطشاً وفتكاً وإجراماً. حروبٌ تستمر. قتلى يسقطون. ارتباك تفكير وتأمّل يشتدّ. عزلات تتحوّل تدريجياً إلى نمط حياة. السياسة قاتلة. الاجتماع مضطرب. الاقتصاد يبطش. رغم هذا كلّه، ينهمك بعضُ مصر بتحديد نوع الترجمة، وبضرورة فرض سينما نظيفة على الإنتاج.

هذان أمران يرتبط أحدهما بالآخر في ضرب بلد وناس بلد ومجتمع بلد. تحديد أنواع الترجمات المسموح بها يتكامل والدعوات المختلفة إلى إنتاج أفلامٍ تنتمي إلى السينما النظيفة (ماذا تعني "السينما النظيفة" أصلاً؟ وهل السينما الأخرى غير نظيفة؟ وكيف؟). السلطة تتشدّد في بطشها، الناعم والعنيف، لمزيدٍ من إمساك بلد وناسه. تريد تربية تتوافق وبطشها الديكتاتوري. تجهد في رفع السواتر بين مصريين كثيرين والعالم، وفي الداخل المصري أيضاً، وهذان سيئان وخطران. الانهيار يحصل يومياً. البطش الديكتاتوريّ معنيّ بتحصين قمعه في الداخل، وبالتلاعب الخارجيّ. مسائل كهذه تزيد من تحكّمه. الترجمات المفتوحة على كلّ شيء تصنع وعياً غير مستحبّ لنظامٍ قامع كهذا. أفلامٌ تقول وتروي وتنقل حالاتٍ وتُنجز جماليات مفتوحة على كلّ شيء، تُعرّي نظاماً قامعاً تمتد أدواته في أرجاء البلد كلّه، وبين الناس جميعاً.

 

 

لا يريد نظامٌ قامع كهذا ما يؤدّي إلى حقائق ووقائع وثقافات تُحرّر وتحرّض على المواجهة وتتحدّى. هذه "غير لائقة" بنظامٍ يعيش بالتقوقع والانغلاق والعزلة والمنع والرفض والتغييب والتزوير. تحديد أنماطٍ معينة للترجمة تُعطِّل عقلاً وتقضي على روح وتُشوّه انفعالاً. إنتاج أفلامٍ نظيفة تجعل العقل نفسه مريضاً، والروح نفسها معطوبة، والانفعال نفسه مفقوداً. وهذا، إنْ يُوافَق على وجوب أنْ تكون السينما "نظيفة". لجيرار دوبارديو قولٌ رائع: "منذ متى على السينما أنْ تكون خيّرة؟ السينما ليست خيّرة، وعليها خصوصاً ألّا تكون خيّرة. على السينما أنْ تُصنع من المخاطر والعاهرات والديناميت والحجارة المشتعلة التي معها نحاول أنْ نتلاعب". يقول أيضاً: "مهما يكن، فالفنّ الحقيقيّ دائماً هو نقيض الإحسان. لكي يكون مفيداً، على الفنّ أن يكون خطِراً" ("البريء"، 2015، منشورات Cherche Midi، ص. 23).

لكنْ، أهناك في سلطة مصر وأزلامها في الفنّ والثقافة من يعرف جيرار دوبارديو، ومن يكترث بأقوالِ عارفٍ ومُجرِّبٍ ومحنّكٍ وفاعلٍ فيها مثله؟ أهناك من يعرف السينما ومعناها أصلاً؟

لتقويض المجتمع أساليب كثيرة. النظام القامع في مصر يُدركها تماماً، وبعضها معنيٌّ بالثقافة والفنون. للعسكريّ عبد الفتاح السيسي كلامٌ في السينما يعكس موقفاً منها، فالسينما "الحقيقية" بالنسبة إليه تدعو إلى "الفضيلة والمبادئ"، وعندها سيكون لها "أجر وثواب كبير جداً". كلام مفتوح على اجتهادات يبرع فيها نظام أمني بوليسي متشدّد، وناجح في تطويع عاملين كثيرين في السينما لتطبيق شيء من "فكر السيسي" في مجالاتٍ، يُثبت التاريخ المصري، أقلّه منذ "ثورة الضباط الأحرار" (23 يوليو/ تموز 1952)، فشل الأنظمة العسكرية الأمنية البوليسية الديكتاتورية فيها: استلام عسكريين وأمنيين (وإنْ يحافظ بعضهم على لباس مدنيّ) شؤون الفن والثقافة والصحافة يتساوى، بسوئه ومخاطره، سوء البطش البوليسي ومخاطره في جوانب الحياة اليومية كلّها.

المساهمون