يا عزيزي كلّنا مهمّشون!

01 مايو 2014

ريني ديشون

+ الخط -

مَن هم المهمّشون؟ وما هي رواية المهمّشين؟
من خلال هذين السؤالين، تناولت موضوع "رواية المهمّشين" في ورقة بحث، أستعدُّ لتقديمها في ملتقى السرد الخليجي قريباً في الكويت. وعلى الرغم من أن إدارة الملتقى هي التي اقترحت عليّ موضوع الورقة، إلا أنه لقي هوىً في نفسي، حتى قبل أن أجد الإجابة على السؤالين اللذين دارا في خَلَدي، وأنا أقرأ عنوان الورقة المقترح.
هل رواية المهمّشين هي الرواية التي يكتبها المهمّشون أنفسهم أم التي تُكتب عنهم؟ ماذا لو تحقّق الأمران في رواية واحدة؟ وماذا لو كانت رواية موضوعها المهمّشين، وكتبها واحد منهم؟
احتمالات عديدة تدور في فلك هذا المصطلح الذي لا يرد غالباً إلا في صيغة الجمع، على الرغم من أن التهميش، عادةً، يشير إلى نوع من الإقصاء ذي الطابع الفردي، متداول، وبكثرة، في مجتمعاتٍ تبدو فيها الفوارق واضحة، وفاقعة، بين المركز والأطراف، أو ما بين المتن والهامش، على صعيد المواطنين وغيرهم، كالمجتمعات العربية بشكل عام.
يقول اللغويون: "همَّش الموضوعَ؛ جعله ثانويّاً، لم يجعله من اهتماماته المباشرة والمُلِحَّة". لكن، هذا بالضبط ما يحتاجه الإبداع غالباً. أن يلتقط موضوعه من ذلك الحيّز القصيّ في حركة الناس والتاريخ والحياة بأسرها، ليجعله، وهو المقصيّ، أو المنبوذ على الأطراف، قلباً للكتابة وبؤرةً للإبداع.
فالتهميش، إذن، في معناه الاصطلاحي، يشير إلى نوع من الإقصاء، أو النبذ الاجتماعي، أو الديني، أو الثقافي، أو السياسي، أو العرقي، أو القبلي. والإقصاء، أو النبذ في هذه الحالة، يعتبر نوعاً من العقوبة الجماعية التي تقع على المقصيّ، لسبب أو لآخر، فيمضي حياته على الهامش. وغالباً ما ينضوي هذا المقصي تحت عباءة جماعته، المقصيّة في صورة أقلية من الأقليات في المجتمع الواحد، أو البلد الواحد،  فيمارس كل أنشطة حياته، غالباً، وفقاً لتقاليد مرعيّة تحت هذه العباءة، أيضاً،  كالنشاط الثقافي والأدبي تحديداً. فيكتب شعراً ونثراً، وينتج فنّاً عادةً ما يكون منصبغاً، بشكل أو بآخر، بلون الجماعة المهمّشة، وإنْ أراده عكس ذلك. فهو في هذه الحالة مهمّش، يكتب عن واقعه المهمّش. لكن هذا الواقع، بجاذبيته الغامضة، غالباً ما يجذب الآخرين للكتابة عنه، من دون أن يكونوا مهمّشين بدورهم.
وأغلب الكتابات التي يُدرجها النقّاد في هذا الإطار، هي من هذا النوع، المتمرّدة على واقعها السياسي والاجتماعي والديني والثقافي، والمنسابة في نهر التهميش ووقائع العالم السفلي، ولغته أيضاً.
والتهميش، بهذا المعنى، ليس مُحدثاً في الأدب العربي، على الرغم من حداثة الكلمة كمصطلح. وما شِعرُ الصعاليك الذين همّشتهم مجتمعاتهم، بعيداً عمّا نثيره في كل دلالاته. فالصعاليك الذين كانوا يعيشون على الهامش، أنتجوا قصيدةً تصوّر هذا الهامش، وتجعله في أحيان كثيرة في قلب الحدث المجتمعي، والإبداعي أيضاً.
والتوصيف الدوني لهذه القصيدة بقي خاصاً بمَن يتلقّاها فقط، وهو توصيف مجتمعي غالباً لا نقدي. وقد بقيت أطياف قصيدة الصعاليك تلوح في أجواء القصيدة العربية لاحقاً، بصور مختلفة، وعبر الأزمان كلها، حتى عصرنا الحديث، وإنْ بشكل خجول كاد أن يختفي أخيراً، مقارنة بمروحةِ أشكال كثيرة تبلورت في الرواية على أنواعها. فقد كانت الرواية العربية، بشكل عام، الأرض الإبداعية الخصبة لتصوير الشخصيات المهمّشة في المجتمعات الحديثة، على عكس القصيدة، مثلاً، والتي لم تكن تحتفي بها إلا قليلاً، انسجاماً مع روح الشعر المحتفية بالشكل البطولي للشخصيات فيها، وتساوقاً، أيضاً، مع طبيعة الشعر التي لا تسمح بتداخل الأصوات في القصيدة الواحدة، إلا كاستثناء، يُبعد القصيدة عن فرديّتها الطاغية عادة.
انتهيتُ من كتابة ورقتي البحثية، بعدما غرقت في عالم المهمّشين والروايات التي تناولت هذا الموضوع أسبوعين تقريباً، لأخرج بنتيجةٍ لم أكتبها في الورقة التي ازدحمت بالنظريات والإشارات المرجعية التي تعرّف المهمّشين بالضبط، بينما لا تحتاج نتيجتي لهذا كله، فهي مستمدّة من واقع نعيشه، ويعاني منه آنيّاً كلّ منّا، في موقعه وبيئته ومجتمعه ومستواه الاجتماعي والثقافي، حيث لا نجاة لأحدٍ منّا، أيّاً كان، من نوع من أنواع الإقصاء والتهميش المتبادل، فكل مهمَّش (بتشديد الميم الثانية وفتحها)، هو أصلاً مهمِّش (بتشديد الميم الثانية وكسرها)، أحياناً بقصد وإدراك، وأحيانا أخرى بلا قصد ولا إدراك. أي أننا بأسلوب إحسان عبد القدوس في عناوين رواياته: يا عزيزي كلّنا مهمّشون.. بالفتح وبالكسر أيضاً!

 

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.