يا صاحب السجن عماد حجّاج

يا صاحب السجن عماد حجّاج

30 اغسطس 2020

عماد حجاج أمام قصر العدل في عمّان

+ الخط -

لا أدري أي "قصور ذاتيّ" دفعني إلى إرسال مقالتي الأسبوعية إليك هذه الليلة، على الرغم من إدراكي الشديد باستحالة وصولها إلى مبدعٍ موقوفٍ على ذمة التحقيق، بتهمة "تعكير صفو العلاقة مع دولة شقيقة". 
أعلم أنك لست من أصحاب النظريات العلمية، لتفهم ما أعنيه بالقصور الذاتي، لكنها محضُ ذريعةٍ أسعفني بها نيوتن بقانونه أن الأجسام المتحرّكة تبقى على حركتها ما لم تتعرّض لقوة تغيّر مجراها أو توقفها، غير أن الحركة تبقى كامنةً فيها بعض الوقت، وربما استأنفت حركتها لو أزيل العائق من أمامها. وأنا اعتدت أن أرسل إليك مقالة أسبوعية لتنشر في صفحة الكاريكاتير التي تعدّها في "العربي الجديد" كل خميس، فجاء الإرسال بحكم العادة.. أليس كذلك؟ المعذرة، الأمر ليس على هذا النحو ألبتة، غير أنني أغالب حرجًا ذاتيًّا للتصريح إنني واثقٌ أن صفحتك ستنشر في موعدها، رفقة مقالتي المتجدّدة عن "فرج"، على اعتبار أن كلينا لم يكلّ من الرهان على مستحيلاتٍ تتحقق وأوهام تتجسّد، ولو بشخصيتين من ورق.
المخاطَب هذه الليلة هو أبو محجوب، والمخاطِب فرج. لنتفق على هذا قبل أن تكمل قراءة الرسالة، وتغلق نافذة زنزانتك، وتأوي إلى فرشة الإسفنج التي مرّ عليها ألف جسد قبلك. لكنها بعد اليوم لن تحتفظ برائحة غير رائحة أبو محجوب و"شبشب" زوجته الوردي الذي اعتاد انتعاله كلما أراد إصلاح سلك برج التلفاز على سطح داره.
لنتفق، ثانية، أننا لن ننام الليلة قبل سماع ذلك الكرنفال الصباحي، ممثلًا بدويّ زقزقات العصافير الجماعية، تمامًا عند الفجر، وكأن ثمة اتفاقًا مسبقًا بينها على إطلاق صرخةٍ مشتركةٍ في لحظة فاصلة بين الظلام والعتمة، والتي غالبًا ما تحاكي دويّ احتجاجات الشعوب، عندما تقرّر، بلا اتفاقٍ مسبق أيضًا، أن تحطّم أبواب بيوتها وتغمر الشوارع بهديرها؛ لتشكّل لحظةً فارقةً بين الحرية والاستعباد.
ها نحن نذهب إلى "سيكولوجيا الجماهير" ثانية، على الرغم من أنني وددت أن يكون بوحنا ثنائيّا. لكن لنعترف بأننا إحدى عصارات التعب الجماهيري، منذ صدّقنا دون كيشوت وشاركناه معاركه "المصيرية". شخصيًّا، ما زلت أصدّق هذا "البطل"، وأرى في وهمه الحقيقة الثابتة في خضمّ الواقع الواهم، على غرار أبو محجوب وفرج تمامًا، الكائنيْن القادريْن على النهوض بعد الموت، لاستئناف معاركهما "المصيرية" مع الظلم.
أليس كل ما نعيشه وهمًا يا صديقي: خذ مثلًا هذا المسوّغ الذي زجّوك بسببه في غياهب السجن: "تعكير صفو العلاقات مع دولة شقيقة"، على الرغم من أنك لم تنتقد دولةً بقدر ما انتقدت "زعيمًا" تطبيعيًّا يهرّب العدو ومخططاته التوسعية تحت عباءته "العربية"، مجّانًا، إلى شرقنا، غير أن مهزلة عدم الفصل بين الزعيم والدولة لم تزل قائمة في بلادنا؛ فالزعيم هو الدولة، والدولة هي الزعيم، ولا ولاء ولا انتماء معترفاً بهما إلا للزعيم فقط.. وبهذا ألصقوا بك تهمة انتقاد دولة بأكملها لأنك انتقدت زعيمها فحسب.
يا صاحب السجن، على مثل هذه الأنشوطة تنفتح تشريعاتنا كلها لتصطاد أعناقنا، نحن المغرمين بالحرية، فيصبح كره الطاغية رديفًا لكره شعبه، ويصبح الحبّ السياسي ذاته أحد الشروط الملزمة لاكتمال المواطنة، فأنت ملزمٌ بحب الزعيم العربي، شئت أم أبيت، وإلا اعتبرت خارجًا على شروط الدولة والمواطنة، مهما اقترف هذا الزعيم من موبقاتٍ وخياناتٍ بحق الدولة والشعب والأمة برمّتها، ومهما قدّمت أنت، في المقابل، لدولتك من مآثر. بل حتى الصمت لن يمنحك صكّ البراءة ولا المواطنة؛ لأنك لم تزل تتعامل مع سلالة طغاةٍ طاعنةٍ في الجسد والتاريخ، معًا، لا تبدأ بصاحب مقولة: "من تكلّم قتلناه، ومن صمت مات بدائه"، ولا تنتهي بطغاةٍ يعتبرون سبّ الذات الإلهية أقل شأناً من سبّ أشخاصهم "المنزّهة"، علمًا أنني لا أبرئ عبيدًا أطلق عليهم من تهمة صناعة الطغاة؛ ارتضوا أن تختصر مجاميعهم بالفرد الواحد.
يا صاحب السجن، تعمّدتُ أن أناديك بهذا؛ لأنني مدركٌ أن تبادل الأدوار مسألة وقت بيننا ليس إلا.. ولا نملك إلا أن ننتظرك، أنا وأبو محجوب وفرج، في عالم أغزر حرية.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.