يافا الوجه النضر للنكبة

يافا الوجه النضر للنكبة

18 مايو 2015
مشهد من يافا (1914)
+ الخط -

في زيارتك الأولى ليافا، إن أتيتها فارغاً من الوزر التاريخي والسياسي الذي تحمله، لن تلحظ أن هذه المدينة العربية التاريخية، التي تستلقي بوداعة على دنوّ من البحر، بشطآنها الخلّابة؛ بيوتها المنخفضة، شبابيكها المقوّسة وسمائها الكبيرة، هي مدينة منكوبة ومحطّمة تعرّضت للتدمير والتهجير القسري قبل عقود قليلة.

لن تكتشف على الفور أن الممشى الخلاب الذي يأخذك من حدود يافا الشمالية إلى فنادق تل أبيبب الجذابة، هي عملياً حارة المنشية المدمرة، إحدى أكبر حارات يافا خارج السور، والتي هدمت كلياً في الستينيات وأبقي فيها على مبان قليلة من بينها؛ مسجد حسن بك.

ولن تكتشف كذلك أن ما يسمى "بارك العجمي" هذه الحديقة الضخمة بهضابها الخضر والتي تمتد من جنوب الميناء وحتى شاطئ الشباب في أقصى الجنوب، هي عملياً "الطّمم"؛ جبال من بقايا بيوت يافا المدمرّة والتي كدّست لأعوام طويلة في تلك المنطقة حتّى قررت "بلدية تل أبيب" استصلاح الأرض بما يليق بحي سياحي في المدينة الكبيرة، فخصّبتها وجعلت من المأساة خضراء إلى درجة موجعة.

لم تختر يافا الحياة بعد النكبة بل تعرّضت للإنعاش القسري، كما فرض عمق المأساة الحياة على أبنائها العرب. لقد أرسلت إسرائيل رافعاتها لإعمار المدينة المنكوبة بعد النكبة بغية أسرلتها وتهويدها وشيّدت في المقابل مدارس حكومية لصياغة عربي إسرائيلي منزوع من تاريخه ومعزول عن امتداده العربي.

لكن النتيجة لم تكن تماماً ما رجتها. ففي مقابل الحارات الجديدة التي شيدتها، والأبنية التي هودتها، والشوارع التي أعادت تسميتها بأسماء عبرية وصهيونية، فشلت إسرائيل في تحقيق رجائها في إخضاع اليافاوي، بل يمكن القول أن اليافاوي نجح بدوره عبر السنين بتجاوز حادثة الهزيمة، وتمكين نفسه من جديد بتعزيز قدرته على المقاومة والنضال، تجاوزاً لا تخاذلاً أو نسياناً.

يعيش اليافاوي في حالة صراع دائم لم يتوقف منذ النكبة، صراع بقاء أمام التّبرجز المتمثل بزحف الأغنياء اليهود إلى يافا، صراع الفقير البسيط في مدينة هي الأكثر غلاءً في "الشرق الأوسط"، وكذلك في مقاومة العنصرية كأقلية صغيرة جداً في وسط يهودي شبه مطلق حيث لم تعد تتجاوز نسبة الفلسطينيين في "مركز إسرائيل" واحداً بالمئة. كلّها صراعات على أساس وطني في مقاومة النكبة التي لا زالت إسرائيل تحاول إطباقها على الوجود الفلسطيني. مُركبيّة الحياة في يافا تبيّن بوضوح أنّ النكبة هي مشروع مستمر لم يقتصر فقط على الاحتلال والتهجير الكبير الذي حدث عام 1948.

من المشاهد التي لا تغيب عن المخيلة، التظاهرات اليومية التي شهدتها يافا ابتداءً من العام 2012 مناصرةً للأسرى الفلسطينيين المضربين عن الطعام، من خضر عدنان وانتهاءً بسامر العيساوي، ثم الاحتجاجات الصاخبة وإغلاق الشوارع بغرض إسقاط "مخطط برافر" الاقتلاعي، فالاحتجاجات الشعبية داخل حارات العجمي نصرةً لغزة في العام 2014.

هذه التظاهرات التي تجاوزت المائة في فترة قصيرة وتمركزت في دوّار الساعة شمال يافا، جرّت وراءها مئات المتظاهرين، وسجلت يافا مركزاً آخر للحراك الوطني في الداخل الفلسطيني إلى جانب المثلث والجليل والنقب، كما أنها أعلنت رسمياً وفاة مشروع إعادة تدوير اليافاوي وإنتاج العربي الإسرائيلي الجديد.

يمكن القول إن أبناء يافا العرب يعون اليوم بشكل أو بآخر هويتهم الوطنية ويعملون على مقاومة نكبتهم المستمرة. يكاد صوت ابن النكبة فخري جداي وصيدلاني يافا الأول لا يفارقني حين قابلته شهور قليلة قبل وفاته وقال: "يافا قبل الـ 48 كانت جنة، هدي أيام العزّ، أيام العز في يافا".


(كاتب فلسطيني/ يافا)

المساهمون