ويكيليكس.. استهلاك فكرة التسريب

ويكيليكس.. استهلاك فكرة التسريب

17 مارس 2017
(مؤتمر لمؤسّس ويكيليكس، تصوير: رودريغو بوينديا)
+ الخط -


دأبت منظمة "ويكيليكس" منذ تأسيسها عام 2006، إلى نشر كميات هائلة من الوثائق الحكومية والتسريبات المرتبطة بأمور تتعلّق بالفساد الذي يتجلّى بانتهاك الخصوصيات وتجاوز النظام القضائي، وطاولت التسريبات التجسّس على الأفراد، وصولًا للنظام الداخلي لمعاملة السجناء في معتقل غوانتانامو، إضافة لعدد هائل من المراسلات لأشخاص اعتباريين مثل جون بوديستا رئيس الحملة الانتخابية للمرشّحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

يضع الموقع في تعريفه عن نفسه، قائمة عن الجوائز التي حصلت عليها المنظمة ومؤسّسها جوليان آسانج خلال العقد الماضي، كنتيجة لعملهم المخلص في كشف أسرار الحكومات وإزاحة الستار عن إجراءات المراقبة التي تشمل كل شيء تقريبًا، ويعتبر الموقع بالنسبة لكثيرين نموذجًا ثوريًا في العمل الصحفي، ومحفزًا لعديد من كاشفي الأسرار لإيصال صوتهم وضمانًا لتقديم الحماية لهم.

كشفت تسريبات الموقع الصادرة في 7 مارس الحالي عن برمجيات طوّرتها وكالة الاستخبارات المركزية CIA، تمكّنها من استغلال ثغرات أمنية في عديد من البرمجيات والتطبيقات الشهيرة لكبرى الشركات التقنية؛ بحيث يمكنها الوصول إلى المعلومات عبر أنظمة أندرويد وويندوز ولينوكس وIOS، إضافة لوثائق تتحدّث عن التجسّس عبر التلفزيون الذكي المصنع من قبل Samsung، ومحاولات التحكّم بالسيّارات الذكيّة.

بعد مرور أسبوع، اقتصرت النتائج المبدئية لهذه التسريبات على تأكيد شركة Apple أن التحديث الجديد لبرامجها كفيل بسدّ هذه الثغرات، وأخلت عديد من الشركات التي تعتمد نظام التشفير End to end مسؤوليتها عن التجسّس، حيث إن الاختراق لبيانات المستخدمين يحصل عبر الهاتف قبل تشفير الرسالة.

أتت الردود الرسمية الأميركية مستخفّة بالمستندات دون نفيها أو تأكيدها، مع استمرار العزف على مقطوعة "ويكيليكس لا يمكن الاستناد لها كمصدر موثوق"، بينما ربطت تصريحات أخرى سبب التسريبات بهجمات سايبرية روسية وصينية، وأفاد الجنرال المتقاعد مايكل هايدن، الرئيس السابق لوكالتي الأمن القومي والمخابرات المركزية، أن جيل الشباب الذي يتقلّد مناصب حكومية واستخباراتية، هو وقود منظمة "ويكيليكس"، كون جيل الألفية الجديدة قد تربّى على أخلاقيات مختلفة.

يعمل الارتباط الوثيق بين أسانج ومنظمته غير الربحية، على تضليل الانتقادات التي تطاول الموقع، فيُفشل الطرح الموضوعي في تجنّب الحديث عن تهم التحرّش المرفوعة ضدّه في السويد، ويرتكز على حديث الكواليس بين الكاتب الشبح الذي عمل على سيرته الذاتية، ولقطات إخراجية من الأفلام الوثائقية التي تعرّضت لموضوع التسريبات والحرب التي تجري في الفضاء الافتراضي، فتأتي طروحات تصوّر شخص آسانج على أنه شديد الارتياب، مهووس بالعظمة يصرخ بأقوال مثل "أنا ويكيليكس"، يرفض إجراء المقابلات على السكايب دون مقابل مادي يختاره هو؛ فحسب الحادثة التي يوردها الكاتب "آندريو أو. هاغان" رفض آسانج مبلغ 20 ألف جنيه إسترليني مقابل حوار لمدّة ساعة واحدة، متعذّرًا بتقاضي "مجرم الحرب" توني بلير 120 ألف جنيه، ما يخوّله للمطالبة بأكثر منه لو بجنيه واحد.

قد تسلك الانتقادات الطريق الأسهل بتفسير نشاطات المنظّمة على أنها جزءٌ من مؤامرة كبرى تحيكها روسيا أو حتى وكالات الأمن الأميركية مثل C.I.A، هذه النظرية خرجت للعلن عبر عضو الإدارة السابق في "ويكليكس" جون يونغ الذي تراجع عنها لاحقًا.

بالعودة لما يُمكن إثباته، يتضمّن الجزء الأوّل "السنة صفر" من التسريبات الجديدة "القبو 7" 7818 صفحة ويب و943 مرفقا، دون تحديد الفترة الزمنية لكل مستند على أن الوثائق تعود لمرحلة بين 2013 و 2016 مرتبة بحسب آخر تعديل من قبل C.I.A، لكن هذا التاريخ غير ظاهر في الوثائق ومحصورٌ لدى إدارة الموقع التي تفيد بأن مصدر هذه التسريبات من داخل الوكالة.

يتوعّد الموقع بأن بقية الأجزاء ستشكّل أكبر تسريب في تاريخ C.I.A، ولا يؤكّد إن كانت جميع الوثائق أتت من المصدر ذاته، لا يجيب الموقع متى وصلته الأدلّة وعن كيفية اختيار الوقت، بل يصرّح أنه فور تدقيق المعلومات وتحليلها تم طرحها للعلن، كما أنه يحث الصحفيين على مراجعتها لكشف مزيد من ملابسات قضايا التجسّس، وقد تكون هناك قصص مهمّة لم يتسنَ للقائمين على الموقع تبيانها.

يُصرّ الموقع على أنه مخلص لمبدأه في طرح الكتل الهائلة من البيانات دون سياسة تحريرية، سبق وطرح الموقع أكثر من 30 ألف وثيقة من شركة سوني، وحوالي 300 ألف رسالة إلكترونية من حزب "العدالة والتنمية" بعيد الانقلاب الفاشل في تركيا، هذا الطرح الفارغ والمليء في الوقت ذاته يوصل العموم إلى عدم الاكتراث حقيقة بما تحويه التسريبات التي تشمل بطبيعة الحال أمورًا بيروقراطية وتعليمات تنفيذية، أو سطورًا برمجية لا تنتهي إلى جانب صفقة مشبوهة هنا أو هناك، ليتصدّر المشهد العنوان الجاذب "بإمكان الاستخبارات التجسّس عليك من هاتفك الذكي لو كان مطفأ" أو "يمكن الاستماع لتسجيلاتك الصوتية المرسلة عبر Whatsapp" ما يحوّل التجاوزات التشريعية التي تمارسها وكالات الأمن إلى مؤامرة نعيشها، وتتناص مع الروايات الديستوبية بعيدًا عن مساءلة حقيقية للقائمين بهذه التجاوزات أو المطالبة بفتح تحقيقات رسمية.

نرى اليوم تحليلات تبنى على ما جاء في وثيقة سرّبتها "ويكيليكس"، مثل تقرير "ذا صن" الذي يربط بين مقتل الصحافي في موقع Buzzfeed مايكل هاستينج في حادث سيارة عام 2013، وقدرة الـ C.I.A على التحكّم بالسيّارات، هذا الانتقال إلى الأخبار التي تعتمد الإثارة وربط خيوط المؤامرات مردّه اعتماد الموقع في سياسته أساسًا على عدم تقديم أدلّة دامغة، والاكتفاء بما تستطيع الوكالات فعله عبر آلاف الكلمات المفتاحية الواردة في التسريبات دون ذكر حوادث واضحة والإجراءات المتّبعة حينها.

تضمّنت مراسلات أردوغان قوائم بأسماء النساء التركيات اللاتي يحقّ لهنّ التصويت في الانتخابات؛ ما يعني بيانات تتعلّق بعنوان السكن ورقم الهاتف ورقم البطاقة الشخصية لأكثر من مليون امرأة تركية موجودة على الموقع، كذلك في تسريبات تتعلّق بالمملكة السعودية تم نشر ملفات طبيّة لضحايا اغتصاب، مع الأسماء الكاملة، ووردت بيانات لأحد المتّهمين بالشذوذ الجنسي، هنا يفشل الموقع في الحفاظ على رسالته وهي حماية خصوصية الأفراد وعدم تعريضهم لخطر الملاحقة، طالبت منظمة "أمنيستي" بإعادة صياغة الوثائق بشكل يضمن خصوصية الأفراد، وأتى رد "ويكيليكس" بترحيبها أن تشارك "أمنيستي" بالعملية المملّة التي تأخذ الكثير من الوقت، لكن هذا لم يحصل؛ واكتفت منظّمة العفو الدولية بتحفظها على الأسلوب مع الإشادة بجهود الموقع.

تتحفظّ "ويكيليكس" عن ذكر مصادر تسريباتها ما يضعها في النقاش الأخلاقي حول كيفية الحصول على هذه المعلومات سواء بهجمات سايبرية، أو عن طريق مصادر داخلية، لكن تصريحات أسانج وأفعاله المتواترة، مثل عرضه 20 ألف دولار مقابل أي تسريب عن إدارة أوباما، ونكثه بوعده حول استعداده لتسليم نفسه مقابل إطلاق سراح تشيلسي مانينج، وهو ما فعلته إدارة أوباما، يضع أخلاقيات الرجل في موضع التساؤل، وتزيد من حجم دور رغباته الشخصية وعداواته لما يطلقه الموقع من بيانات تدين مختلف الأطراف.

لا ينجح الأسترالي في لعب دور روبن هود في حرب المعلومات المتّقدة، فهو إن كان يسرق المعلومات ممن يملكونها لا يقدّمها لمن يحتاجها، تكمن سلبية الموقع المليء بالأسرار في عدم جديّة الطرح الذي يهتم بالكم، وعدم قدرته على الوصول إلى فئة ترى أنها لا تخفي شيئًا، فما الضير بمراقبة تحميها، حجّة تبدو منطقية أكثر من نشر خصوصيات أفراد على هامش صنع فضيحة لمؤسّسة حكومية فاسدة، وهذا ما قد يقطع الطريق أمام تسريبات قادمة أو تحقيقات استقصائية، قد تكون أكثر جدية، بسبب استهلاك "ويكيليكس" لفكرة التسريب الصحافي، وربط أي حدث مشابه بالمنظمة أو على الأقلّ مقارنته بحوادث التسريب التاريخية من ناحية الحجم، والتي وصل مجموع وثائقها إلى أكثر من 10 ملايين وثيقة.