تفوز الديوك بشق الأنفس، لتنطلق الاحتفالات داخل الملعب، ويذهب المدافع لوران بلان سريعاً إلى المرمى، من أجل تقبيل رأس الحارس فابيان بارتيز، وإعلان استمرار الحلم الفرنسي نحو اللقب الثمين. ثنائية "بلان-بارتيز" كانت بمثابة اللقطة الابرز في كأس العالم 1998، وتميمة الحظ بالنسبة لتشكيلة المدرب إيمي جاكيه، حتى مباراة كرواتيا الشهيرة في نصف النهائي.
فلاش باك
صحيح أن فرنسا تفوقت في النهاية على الكروات بهدفي توران، لكن شهدت هذه المواجهة حالة شد وجذب بين لاعبي الفريقين، بسبب طرد لوران بلان، ومنعه من المشاركة في النهائي، وتقبيل بارتيز أمام البرازيل، أباطرة اللعبة القادمين من شواطئ الكوبا كابانا، واتجهت أصابع الاتهام وقتها إلى قائد ويستهام الحالي، سلافين بيليتش، مدافع الجيل الذهبي لمنتخب كرواتيا، والذي تسبب في إقصاء مدرب سان جيرمان الحالي، بعد احتكاك بين الثنائي داخل منطقة الجزاء.
هل رونالدو لعب النهائي مصابا أم لا؟ هل حدثت أشياء خفية داخل معسكر البرازيل خلال البطولة؟ هذا هو السؤال الأشهر بعد مونديال 98، وإذا حاولنا البحث عن حدث آخر، سيكون حتماً خاصاً بواقعة "بلان-بيليتش"، لأن الجدل بعدها وصل إلى طريق شبه مسدود، وبقي السؤال دون جواب قاطع، هل قام بيليتش بالتحايل على الحكم؟ أم استحق بلان الطرد فعلاً؟
شخصية
لعب بيليتش لعدة أندية في كرواتيا وإنجلترا، ومثّل منتخب بلاده في معتركات عديدة، واستمر في الملاعب منذ نهاية الثمانينيات وحتى بداية الألفية الجديدة، ورغم أنه لم يكن المدافع السوبر أو اللاعب الأفضل وسط أقرانه، إلا أنه ظل قادرا على العطاء لسنوات طويلة، بسبب تمركزه كقلب دفاع، يفهم كرة القدم جيداً، ويعرف متى وأين يتحرك أمام المرمى.
وبعيداً عن التقييم الفني، ظل بيليتش أحد أيقونات الجيل الذهبي لمنتخب كرواتيا، رغم أنه لا يتمتع أبدأً بمهارة بوبان، وتاريخ سوكر الطويل، لكنه صاحب شخصية فولاذية، ساعدته على البقاء داخل دائرة الضوء داخل وخارج الملاعب. فسلافين مواطن كرواتي يعشق اليسار، وله آراء سياسية تصب في صالح الطبقة الكادحة بالشرق الأوروبي، بالإضافة إلى ولعه بالموسيقى ومشاركته في بعض الأعمال الغنائية.
وكما كان لاعبا، ظل بيليتش على الوعد مدربا، نتيجة استيعابه مفاهيم كرة القدم الحديثة، وقدرته على ضبط المجريات داخل غرفة الملابس، ليقود كرواتيا فنياً خلال سنوات سابقة، ويجرب حظه بنجاح مع بيشكتاش في تركيا، ليحصل على فرصة ذهبية في الدوري الأشهر عالمياً، ويتولى مهمة ويستهام هذا العام.
كرة الناس
يعتقد بيليتش أن كرة القدم هي أجمل شيء بالوجود، يحبها أكثر من أي شيء آخر، ويرتبط بها إلى اقصى درجة ممكنة، لذلك إذا أردنا تقييم المدرب فنيا، فإننا أمام مدير فني لا يدافع باستماته رغم أنه كان قلب دفاع، ولا يندفع للهجوم دون رابط، إنه رجل يحب الكرة الجميلة ويسعى إلى تحقيقها، لكن مع توازن وانضباط، مع العمل بهذا المثل، "تحتاج اللوحة الفنية الرفيعة المقام إلى أقلام من الألوان، وليس من الرصاص"، لذلك يلعب مع كل فريق بطريقة تناسبه.
في كرواتيا، اتجه بيليتش إلى الهجوم والاستحواذ، التمريرات القصيرة واللعب الإيجابي على المرمى، مع الرهان على خط وسط حديدي، قائم على التمركز المثالي بطول وعرض الملعب. ومع بيشكتاش، اختار أيضاً طريقة لعب محببة للجمهور، وقدم النادي أداء مرضياً بين الدفاع والهجوم، مع الاعتماد على الأطراف بشكل واضح، وتسجيل الأهداف من اللعب المنظم المفتوح، مع صناعة فرص عديدة أمام مرمى المنافسين.
ويستهام حالة مختلفة عن تجاربه السابقة، لأن ناديه الجديد أقرب إلى الأسلوب البريطاني القديم، الخاص بالكرات الطولية واللعب البدني العنيف، مع استخدام الكرات الرأسية بمناسبة وبدون، لدرجة أن مورينيو "الرجل الدفاعي" قال عن ويستهام منذ عامين، إنهم يلعبون كرة قدم أقرب إلى القرن التاسع العشر".
القرن الحادي والعشرين
بكل تأكيد حديث جوزيه مورينيو به قدر من التهكم والإجحاف، لأن كرة القرن التاسع عشر كانت هجومية، بالإضافة إلى أن طريقة لعب ويستهام لم تكن دفاعية على طول الخط، لكن حقاً المدرب السابق سام ألاردايس اختار النتيجة على حساب الأداء، وتحول أداء ويستهام تدريجياً إلى نسخة ركيكة ومملة، حتى رحيل البيج سام في النهاية، ورهان الإدارة على اليساري القادم من كرواتيا.
رقمياً، لعب بيشكتاش بيليتش باستحواذ وصل إلى 55 %، بينما متوسط استحواذ ويستهام الموسم الماضي 46 %، وسجل الفريق التركي 55 هدفاً خلال 34 مباراة، بينما اكتفى الإنجليز بـ 44 هدفاً في 38. وعلى مستوى التمريرات، يمرر لاعبو بيشكتاش قرابة 370 تمريرة قصيرة بالمباراة الواحدة، مقابل 214 تمريرة لويستهام، مع 11 لعبة هوائية تركية لكل مباراة، أمام 22.9 لعبة هوائية للإنجليز، الضعف تقريباً.
تؤكد لغة الإحصاءات أن مدراء ويستهام أرادوا شكلاً جديداً للفريق، وطريقة لعب أقرب إلى قلوب الجماهير، لذلك اختاروا بيليتش على حساب سام، من أجل تحويل الفريق من الدفاع المميت إلى الهجوم المتزن، وتقديم أداء مقترن بالنتائج في نهاية الدوري الإنجليزي، لذلك كان التعاقد الأبرز لهم بالميركاتو الأخير، ديمتري بايت، صانع اللعب الفرنسي القادر على تقديم خلطة كروية مبهرة بالثلث الهجومي الأخير من الملعب، من أجل الوصول بنجاح إلى حدود القرن الحادي والعشرين.
قاهر الكبار
فاز ويستهام هذا الموسم على آرسنال، ليفربول، مانشستر سيتي، بنتائج مميزة مع أداء رائع، والمفاجأة أن المباريات الثلاثة كانت خارج قواعده وبعيداً عن جماهيره، ليخطف الفريق المركز الثالث بجدول البريمييرليغ حتى الآن، رغم أنه خسر على ملعبه أمام فرق ليستر سيتي وبورنموث، وكأن شعار ويستهام بيليتش، "أسد ضد الكبار، وأمام الصغار نعامة".
يلعب بيليتش بخطة 4-2-3-1، يعتمد على رباعي دفاعي على خط واحد، مع ظهيري جنب يتقدمان في الغالب للأمام، لزيادة العمل الهجومي أسفل الأطراف، ويقوم ثنائي المحور بالتغطية الخلفية، بالإضافة إلى استخدام ثلاثي هجومي متنوع، جناح يلعب أكثر على الخط كفيكتور موسيس، وآخر يميل إلى العمق من أجل القيام بدور الوسط الثالث "لانزيني"، برفقة بايت، صانع اللعب رقم 10، واللاعب الكل في الكل خلف المهاجم الصريح، الذي يمتاز بالسرعة والقوة أمام المرمى، ساخو خير دليل.
سجل ويستهام 13 هدفاً خلال 6 مباريات، واستقبل 7 أهداف في شباكه، وبالتالي فإن هجوم الفريق فعال ومختلف، نتيجة اعتماده على ثنائية الأطراف بالخط الجانبي، مع الضرب في العمق بصانع لعب مختلف كبايت، يستطيع صناعة الأهداف وتسجيلها في أضيق الفراغات الممكنة، مع خط دفاع متحد قريب من بعضه البعض، أمام حارس مرمى يجيد تحدي أعتى المهاجمين.
المشوار طويل
أمام الفرق الهجومية، لا يعاني ويستهام بيليتش حتى الآن، لأنه فريق يعرف كيف يغلق دفاعاته جيداً، ويجيد بامتياز تسجيل الأهداف من اللعب المباشر أو الضربات الثابتة، نتيجة تنوع قدرات نجومه، ما بين مجموعة قادرة على الاندفاع البدني، وأخرى تجيد التبادل السريع والخاطف للكرات، من الدفاع إلى الهجوم، لكنه يعاني أمام الفرق التي تدافع أمام مرماها طوال المباراة.
وبالعودة إلى تاريخ بيليتش، سنجد أن هذا العيب التكتيكي مرتبط به منذ أيام كرواتيا وبيشكتاش، لأنه حينما يختار الهجوم الكامل، فإن فرقه تندفع بشكل مبالغ في نصف ملعب الخصوم، وتزيد الفراغات خلف خط الدفاع، لذلك فإن معظم الفرق التي هزمت بيليتش، اعتمدت على المرتدات الخاطفة واستخدام لعبة التحولات.
يحتاج ويستهام إلى توازن أكبر على ملعبه، ليس سياسة الدفاع الكامل كما يلعب أمام الكبار، لكن أيضاً يجب أن يكون هناك ربط حقيقي بين الدفاع والوسط، خصوصاً أثناء فقدان الكرة. وفي حالة الوصول إلى هذه المعادلة، سيكون فريق بيليتش بمثابة المعادلة الصعبة بالدوري الإنجليزي هذا الموسم.