وهم دمقرطة الحركة السلفية في مصر

وهم دمقرطة الحركة السلفية في مصر

20 مايو 2014

اجتماع لحزب النور السلفي في القاهرة (أكتوبر 2011 Getty)

+ الخط -

مع انفتاح المجال العام في مصر بعد ثورة 25 يناير 2011، دخلت حركات اجتماعية مصرية عديدة في العمل السياسي، من أبرزها جماعة الدعوة السلفية في الإسكندرية، والتي ظلت، حتى أيام قليلة قبل تنحّي حسني مبارك، تُحرّم المشاركة في المظاهرات والعمل السياسي بشكل واسع. كان دخول الدعوة السلفية في العمل السياسي، من خلال إنشائها حزباً سياسياً في صيف 2011 مبعثاً للحيرة من باحثين عديدين في العلوم السياسية، خصوصاً وأن الحركات السلفية تتفق، مع اختلاف منهج عملها بين دعوية وجهادية، في موقفها الفقهي قبل الثورة الرافض للديمقراطية والمشاركة السياسية في العملية السياسية والوجود في مؤسسات السياسة بشكل عام.
وهذا يعود إلى جملة أسباب، في مقدمتها أن الديمقراطية تعني، وفقا لأيدولوجيتهم، منهجاً كفرياً وثنياً، باعتبارها تعطي السلطة لغير الله، فهي تمنح سلطة التشريع لممثلي الشعب في البرلمان الذين يضعون قوانين تصطدم مع حاكمية الله وشريعته. أيضاً، قد تؤدي الديمقراطية، وفقا لهم، إلى تمزق المجتمع وتفرقه إلى تيارات، وبالتالي سقوطه في الفتنة. السؤال الذي كان في بال الباحثين عند دخول الحركات السلفية، وخصوصاً الدعوة السلفية في مصر، هو أليس دخولهم في العمل السياسي يعني مشاركتهم في الفتنة، أو تخليقهم الفتنة؟ وكيف يمكن أن يتسق دخولهم في العملية السياسية مع تنظيرهم الكثيف ضدها، المبني على دلائل دينية من القرآن والسنّة؟ وألا يعني ذلك تناقضاً قد يؤدي إلى تمزيق هذه الحركات وتفككها؟
وبالتالي، تعامل باحثون في العلوم السياسية مع دخول الحركات السلفية في العملية السياسية، باعتباره ظاهرة سياسية جديدة، جديرة بالاهتمام والدراسة، وقفز باحثون كثيرون إلى نتائج سريعة، اعتمدت على ملاحظات فترة الانفتاح الديمقراطي القصيرة التي عاشها المصريون منذ 25 يناير/ كانون الثاني 2011، والتي انتهت بالتدخل العسكري في العملية السياسية في 2 يوليو/ تموز 2013. كان من أبرز النتائج الحديث عن السلفية الجديدة، والتي تعني تغييراً جذرياً في العقلية السلفية والمنهج السلفي الذي اشتمل على رؤى نظرية، معتمدة على فهم للمصادر الإسلامية، ضد الديمقراطية والعملية السياسية برمتها. 

ثلاثة عوامل ولا مراجعات مكتوبة

إذن، الافتراض الرئيس كان حدوث تغيير جذري في حركة الدعوة السلفية، إلا أن هذا لم يتم تدعيمه بمراجعات مكتوبة ومنشورة من ممثلي الحركة، في رؤيتهم للديمقراطية، تُناقض ما كتبوه سابقاً، أو، على الأقل، يقدم طرحاً مختلفاً عما تم تقديمه في فترة ما قبل الثورة. ما دفع الباحثين في العلوم السياسية إلى المراهنة على أن مثل هكذا تغيير ومراجعة وتنظير قد تحدث مع الاشتباك المباشر الحادث بين الدعوة السلفية والعملية السياسية. فأدبيات الحركات الاجتماعية توصلت إلى أن الحركة الاجتماعية (من حيث الأيدولوجية والتنظيم) تتأثر بثلاثة عوامل رئيسة هي:


أولاً: الاشتباك مع العملية السياسية سوف يدفع الحركة الاجتماعية إلى الاشتباك مع آخرين، ينتمون إلى تيارات سياسية مختلفة، بل ومتناقضة مع أيدولوجية الحركة، وهذا سيُحدث ما يسمى external contestation، والذي يعني أن هؤلاء الآخرين، والذين يكونون لاعبين سياسيين واجتماعيين، سوف يُحدثون تحدياً مستمراً للحركة الاجتماعية، مستمرين في نقد أيدولوجيتها وتحركاتها، الأمر الذي يدفعها إلى تنقيح وتطوير مستمر في أيدولوجيتها. ثانياً: الاشتباك مع العملية السياسية سوف يؤدي إلى تعامل الحركة مع قضايا وموضوعات جديدة، لم تتعامل معها من قبل، الأمر الذي يؤدي إلى إيجاد internal contestation، نقد داخلي بين أعضاء الحركة للأيدولوجية والفعل معاً، وهذا يؤدي، أيضاً، إلى عملية تنقيح ومراجعة للأيدولوجية، وكذلك سيعزز من الديمقراطية الداخلية، والذي قد يؤدي إلى تعزيزها على المستوى الوطني. ثالثاً: الاشتباك مع العملية السياسية يُعرّض الحركة إلى الاشتباك مع الواقعية السياسية، والتي تتسم بقيود تفرضها عمليات الاحتكاك المباشر مع مؤسسات وفاعلين، سواء على المستوى الوطني أو الدولي، بالإضافة إلى قيود الواقعية الاقتصادية.

وقد يكون ثمة تأثير حدث للدعوة السلفية، في تحركها داخل العملية السياسية، إلا أن المُدقق من الباحثين قد يكتشف أنه لم يحدث تغيير حقيقي في لُب فكر الحركة وفعلها، وبالتالي، ما توصلت إليه أدبيات الحركات الاجتماعية التي بُنيت على دراسة حركات ذات أيدولوجية علمانية، أو تعمل في مجال عام علماني، ديمقراطي، حتى لو كان لها تاريخ ديني، أو ميل ديني قد لا تصلح لتفسير ما يحدث لحركة بُنيت بشكل ديني، إسلامي، تعمل في مناخ سلطوي رجعي، مكبل بإرث كولونيالي، وبإرث تداعيات الانهزام الحضاري.


العلاقة مع ولي الأمر

من القضايا الرئيسة التي دارت حولها الحركات الإسلامية، في نشأتها وتحركها في المجال العام في المجتمع والدولة العربية، العلاقة مع الحاكم، ولي الأمر، وأدبيات الحركة الاسلامية بشكل عام تناقش هذه القضية. هذه القضية هي أيضاً تمثل لُب الفكر السلفي: ما هو الموقف من ولي الأمر؟ بل، بشكل وجودي، كيف يتم تعريف ولي الأمر؟ دارس الحركات السلفية يرى أن هناك مركزية لشيخ الحركة داخل الحركة، والتي تعني وجود حالة من الطاعة من جانب المُتبِع للمُتَبع الشيخ (المُريد والشيخ)، وهذه المركزية لا تعني فقط تحكمه في مسار الحركة إيجاباً وسلباً، تقدماً وتراجعاً، بل، أيضاً، في فكر الحركة، وما تتبناه من تفسيرات للمصادر الإسلامية، والتي تنعكس في فتاوى تُصدر، وتحركات تُفعل على الأرض. وبالتالي، يتموضع العقل السلفي حول مركزية شيخه Sheikh –Centrism، وبالتالي، قد يرى العالم وتفسيراته من خلال ما يقدمه الشيخ من تفسيرات اختارها وانتقاها، ثم تبناها بعد ذلك، وتحولت مسلمات لا يمكن النقاش فيها. وبالتالي، من الأمور التي تم تبنيها من شيوخ كثيرين في الحركات السلفية تعريف "ولي الأمر"، شخصاً أو كياناً، باعتباره من له الشوكة، أو القوة والغلبة، حتى ولو كان فاسداً. وتصبح قضية الفساد قضية دُنيا، ويتم المناقشة فيها حول نوعية الفساد، بدلاً من وجوده، فيمكن تقديم المبايعة والولاء لمن هو أقل فساداً، مع التغاضي مع الفساد، ولو كان معصية كبرى. وهنا، تقع إشكالية تعريف الفساد نفسه، ما الذي يمكن أن يُعتبر فساداً أصغر، وما الذي يمكن اعتباره فساداً أعظم، وهذا متروك لتقدير الشيوخ، لا غير. لأن القضية المركز، وفقاً لهم، هي وجود ولي الأمر في الحكم، لأن عدم وجوده قد يؤدي إلى مفسدة أكبر للمجتمع وللأمة، وبالتالي إلى فتنة!

إذن، العملية السياسية التي فُتحت للحركات السلفية من خلال أدوات الديمقراطية لم ينل منها السلفيون السياسيون، وخصوصاً حركة الدعوة السلفية، سوى الإجراءات التي تعينهم على الحضور في المجال العام، بطريقة تخدم مصالحهم، دينية وغير دينية. وهنا، لا يكون للديمقراطية كفلسفة تقوم على الشفافية والمحاسبة واختيار الحاكم النزيه غير الفاسد مكان في أيدولوجية الحركة. وهذا بالفعل يتماس مع الجدل البحثي بشأن الديمقراطية، والذي توصل، أخيراً، إلى أن الديمقراطية كإجراءت قد تؤدي إلى وصول الأسوأ إلى الحكم، واستمرار تدهور وضع الحريات وحقوق المواطن واستمرار تدهور المجتمع، وما يُقدم له من خدمات. وبالتالي، لن يقوم تقييم النظام الديمقراطي على دورية الانتخابات، بقدر المحتوى الذي تأتي به الانتخابات. هذا يتناقض مع أيدولوجية حركة الدعوة السلفية. وليس مستغرباً نهائياً أن تساند الدعوة السلفية نظام مبارك، ثم تساند عودة هذا النظام ممثلاً في المرشح العسكري، عبد الفتاح السيسي. فالمحك، هنا، ليس مدى نزاهة الحاكم والمحتوى الذي يقدمه، وإنما المعيار هو "الشوكة والقدرة على القمع"، وهذه تعني موالاته خوفاً منه، من ناحية حماية الحركة وأتباعها، ومن ناحية ثانية، اتساقاً مع منهج الحركة في اختيار الفاسد، باعتباره أقل فساداً من آخرين. إذن، الدائرة مغلقة، ولا يوجد خروج عليها نحو قضية طرحها الرسول والنبي محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم)، ثم الخليفة أبو بكر الصديق والخليفة عمر بن الخطاب، بشأن الخروج على الظالم، ولو كان من أمة المسلمين، لأن الفتنة ستقع بوجوده، والمجتمع سينقسم بوجوده أيضاً.
وهكذا طرح لا أعتقد أنه يوجد في أيدولوجية حركة الدعوة السلفية، وقد يكون مهماً، أيضاً، لدارسي الحركات السلفية أن ينتبهوا إلى أن دائرة التحرك السلفي في العملية الديمقراطية ليست جديدة، بقدر ما هي تكريس لخطاب الأزمة، بعد سقوط الحضارة الإسلامية، والذي يعني عدم وجود مانع لديهم من تغيير ما اعتبره باحثو العلوم السياسية ثابتاً بالنسبة للحركة السلفية، وهو رفض الديمقراطية باعتبارها كفراً، لكنها ليست ثابتاً في أيدولوجية الحركة السلفية، بل قابل للتغير، في مواجهة ما اعتبره هؤلاء الباحثون متغيراً، وظهر أنه هو الثابت، ولا تغيير فيه بالنسبة للأيدولوجية، وبالتالي لعقلية الحركة السلفية، وهو مركزية الشيخ ومركزية ولي الأمر صاحب الشوكة!

 

EB663898-3457-459C-B1E2-A40FE222DCB7
نجوان الأشول

كاتبة مصرية، رئيسة المركز العربي لتحويل النزاعات والتحول الديمقراطي، باحثة دكتوراه في الحركات الاجتماعة والإسلامية بالجامعة الأوروبية، عملت باحث دكتوراه في المعهد الألماني للدراسات الدولية. تنشر مقالات بالعربية والانجليزية.