ومن السياسة ما قتل
عندما فكر صدام حسين في استخدام الخيار العسكري ضد إيران، بعدما أقنعته تقارير، وضعت على طاولته، بأن القدرة العسكرية الإيرانية توشك أن تصل إلى نقطة الصفر، وأن الانقسامات تتفاعل سلبياً داخل المؤسسة العسكرية، نصحه الرئيس أحمد حسن البكر بعدم الجنوح لهذا الخيار، مفضلاً ضبط النفس، والبحث عن تسوية سلمية، والاكتفاء بنشر قطعات عسكرية على الحدود. في حينه، قال البكر لصدام: "إيران قد تتحول إلى قشة، لكنها القشة التي تقصم ظهر البعير"!
ومع أنها خرجت من الحرب مهزومة، إلا أنها استطاعت، بفضل الغزو الأميركي، أن تقصم ظهر البعير، و"أصبحت تقود ثلاث عواصم، والرابعة في الطريق"، بحسب علي رضا زاكاني، أحد مساعدي خامنئي، الذي عنى دمشق وبغداد وبيروت، وصنعاء الرابعة. وقد يكون ما حققته، أو ما حققه لها الأميركيون، هو الذي يدفعها إلى أن تعبر، بين حين وحين، وإن على استحياء، عن رغبة حميمة في تطبيع علاقاتها مع واشنطن والغرب، وهي تعيش حلم العودة إلى ممارسة دور "شرطي الخليج"، الذي عرفت به، إبان عهد الشاه الراحل، وقد أطلق زاكاني على هذا الدور تسمية جديدة، لا تعففاً أو حياءً، وإنما تلطفاً وإغراءً، واستنكافاً أيضاً، إذ وصفه بأنه "دور القطب الأساسي في المنطقة"، وهو القطب الذي عليه واجب ديني في القيادة والريادة، تخدمه عوامل الجغرافية والتاريخ والسياسة، وإذ تعرض هذا "القطب" لحالة انكفاء وتراجع، في مرحلة سابقة، بسبب المواجهة التي حصلت مع الغرب، فإن ظهور "تنظيم الدولة الإسلامية" الذي ساهم في خلط الأوراق، والاختراق الحاصل في الملف النووي، يغريانه، اليوم، بممارسة نوع من الانفتاح والبراغماتية المحسوبة، في التعاطي مع ملفات المرحلة، على نحو يتيح له أن يأخذ مكانته لاعباً أكبر، له "دوره الأكثر فاعلية وأهمية من أي وقت مضى"ّ، بلغة رئيس مجلس الشورى، علي لاريجاني.
من بوادر هذه البراغماتية النقد الناعم والجريء في آن، الذي وجهه محمد علي سيحباني، المستشار البارز في الخارجية الإيرانية، إلى "سياسة حكومة المالكي الإقصائية ضد المجموعات السنية في العراق، والتي كانت سبباً في تشكيل حاضنة شعبية لتنظيم الدولة الإسلامية"، وإلى "قمع (حكومة الأسد) التظاهرات، في البداية، بالقوة المفرطة، والتي أدت إلى ظهور مجموعات مسلحة فيما بعد، ... ولو اتخذت خطواتٍ لتهدئتها، لما وصلت الأوضاع إلى ما هي عليه اليوم." وإشارته اللافته الأخرى إلى إمكانية "فتح الباب أمام تحسين العلاقات مع الرياض، في حال اتبع الطرفان سياسات تصالحية"!
تلك مؤشراتٌ، وغيرها، يزخر بها الإعلام الإيراني، في هذه الأيام، تقنع محللين بتوقع مستقبل وردي للعلاقة بين طهران وواشنطن، قد يأخذ شكل "تحالف استراتيجي" بين العاصمتين، تتشاركان، بموجبه، في إدارة "شرق أوسط جديد"، على قاعدة "تبادل المصالح"، ويكون لها رأيها، بالطبع، في التسويات المحتملة التي يحبل بها الشرق الأوسط، وما لم يكن متصوراً، قبل اليوم، يمكن أن يصبح أمراً واقعاً، فالسياسة فن المستحيل، وليست فن الممكن، كما هو شائع.
يتفق زبغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر، مع هذه الرؤية، إذ سبق له أن حذر من التفكير بمهاجمة إيران، ودعا إلى اتباع "سياسة واقعية"، تعيد طهران إلى دورها الذي عرفت به، أيام الشاه، لكن واشنطن، على غير عجلة من أمرها، بانتظار ما سيحدث في فترة "الشهور السبعة" التي اعتمدت لاستمرار التفاوض حول الملف النووي، والتي قد تشكل اختباراً للنيات.
يبقى تأثير هذه المتغيرات على العالم العربي الذي يمر في غيبوبة، وتخيم عليه حالة انسداد الأفق، بعدما أصبح ظهره مكشوفاً، تعصف به رياح هابة من الجهات الأربع، وبعض قادته منهمكون في مواجهات ساخنة، داخل بلدانهم، قد تمنع عنهم الرؤية السليمة، وتجعلهم أسرى ترتيب أوضاعهم الشخصية التي تتعرض للاهتزاز.
ولا يكفي لهؤلاء القادة الشكوى من تدخلات إيرانية مزعجة، في أوضاعهم المحلية، كما لا يكفي استعداء أطراف دولية على إيران، بحجة امتلاكها "النووي". المطلوب منهم مبادرات تصلح العلاقة بينهم وبين شعوبهم، وتوطد الخطو إلى توحيد رؤاهم ومواقفهم من هذه القضية أو تلك، مبادرات تجعل المواطن العربي يثق في أنه يعيش في ظل نظام يكفل له حق المواطنة، والمساواة أمام القانون. وبغير ذلك، فإن قاصمة الظهور إن لم تأتنا من هذا الطرف، فسوف تأتينا من ذاك، ومن السياسة ما قتل.