ولتنضجي يا عزيزتي مثلنا نضج الاحتراق!

ولتنضجي يا عزيزتي مثلنا نضج الاحتراق!

22 يناير 2020
+ الخط -
أدمى قلبي ما سمعته اليوم من حديث طبيبة صعيدية ناجية من حادث طبيبات المنيا المؤلم. فالشابة الراقدة على سريرها منذ الحادث من حوالى أسبوع، التي ستظل أسيرته لثلاثة أشهر أخرى على أقل تقدير، خلُصت، بعدما وصفت ما جرى لها ولزميلاتها، إلى أنها ستترك البلد للهجرة لو لم يُعاقَب المسؤول عن موت خمس طبيبات وإصابة الباقيات بهذا الشكل المفجع.

تبسمت والله بكل المرارة لفرط وجع الحديث. فالشابة الطيبة تهدد بمغادرة الوطن الذي لم يراعِ حرمة أنوثتها هي وزميلاتها، ولم يحفظ كرامة مهنتها، ولم يُنجدها وقت الكارثة، ثم تلتفت لتجد من سبّب ما جرى باقياً في مكانه بذات سلطته ليدلي بالأحاديث ويلتقط الصور، وكأن أرواحهن وأجسادهن وكرامتهن صفر في حساب الوطن.

تبسمت وقلبي ينفطر والمر على لساني يرد على المسكينة: ومن أخبركِ يا عزيزتي أن تهديدك بالمغادرة ستهتز له شعرة من رأس الوطن؟ من رباكِ مثلي ومثل الآلاف غيري على أنك إنسانة مهمة ومعتبرة وقيمتك وعلمك وعملك إضافات إلى قيمة الوطن؟


سامحهم الله. خدعونا فأفنينا أعمارنا بوهم أنها باقية وممتدة في عمر الوطن، وإذا بالوطن شارد عن جهودنا وأعمارنا ولا يأبه لأحد! كثير من إخوة الوطن يا دكتورة سيتهكمون على تهديدك وسيعتبرونك متعالية بشهادتك، وسيردون عليك بسياط السؤال الغاضب المرّ الحزين: وهل تظنين نفسك أهمّ للوطن من ألوف أصيبوا أو قضوا على الطرق وفي القطارات قبلك وبعدك؟! عشرات الآلاف من الآباء والأمهات والشباب والصغار من كل المهن والأعمار الثمينة راحوا بلا دية وبلا تغيير، فلم الغضب الآن؟ فلتحمدي الله على النجاة وعلى ظروف قد تتيح لك المغادرة بشهادتك لو كانت مطلوبة في مكان ما، فغيرك احترق أو بترت أطرافه أو مات مغدوراً بسيف الإهمال واللامبالاة والفساد وبات أحبته مهمومين بتكلفة علاجه أو طعامه أو حتى دفنه!

آسفة للكلام الصعب! لكن سامحيهم يا سيدتي على القسوة وسامحيني على نقلها. فالقسوة تولد الفُجر كما يقولون. ونحن يا وِلداه نتجرع القسوة منذ الأزل، لكننا ما زلنا والله نجاهد للبعد عن الفُجر والحفاظ على حدٍّ أدنى من إنسانية منهكة. فليكن العفو عن المضطر خلق الكرام أمثالك.

أشفق عليكِ يا دكتورة، وأفكر في كلامك بحزن حقيقي، ثم لا أجد ما أقوله لكِ سوى سلامتك. أقولها من باب التلطف ولا أملك لك غيرها وغير الدعاء. فسلامتك مهمة لكِ ولأهلك وأحبابك بكل تأكيد، أما الوطن فسلامتك لا تعنيه، لأن سلامته دائماً من سلامة آخرين لا يرونك ولا يسمعونك أصلاً.

فلتنضجي نضج الاحتراق الذي أنضجنا جميعاً لتدركي أن كل ما يحدث للوطن يصارحنا بأننا عالات على سلطاته، يطعموننا من لحومهم الحية، ويكدرهم وجودنا، وتضايقهم كثرتنا، ويعاملوننا كعبء ثقيل يتمنون زواله. فلا تعليمنا لائق أو متوافر، ولا علاجنا مما يؤرق نومهم الهادئ، ولا عملنا هام أو مقدر، ولا موتنا سيؤثر في الوطن، ولا مغادرتنا ستُبكيه.

وأقولها لكِ كما أقولها لأولادي وأحبتي: أوطاننا أحضان تحبنا وتنتظرنا وتترفق بنا وتخاف علينا، فمتى كانت كذلك كانت وطناً، ومتى لم تكن فلنغادر، من لا يبكِ وجعنا ولا يربّت فوق رؤوسنا المنكسة، ولا يواسينا، ولا يهتم. ولتكن لنا في أرض الله، إن استطعنا، أوطان بديلة تعامل الإنسان ككنز ثمين. أو لتظل رحمته أبداً وطناً لأمثالنا.

دلالات

6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى