وقت مسروق في القدس

وقت مسروق في القدس

01 مارس 2020
من جدارية في مدينة غزّة (Getty)
+ الخط -

لا شيء أمامي هذا النهار.

نلبس ونذهب للمستشفى. وقبل أن يأخذ أخي جلسة الإشعاع الأولى، يشرح له الطبيب المختصّ مضاعفات الإشعاع: ستهبط الخصوبة في حيوانك المنوي للنصف. وبعض الأحيان ستشعر بتعب خفيف، مع احمرار في الجلد.

أقول للطبيب: لقد أدّى الرسالة. لديه ستّة أولاد. نضحك ثلاثتنا، ويدخلان لغرفة العلاج. عشر دقائق ويخرج أخي. معنوياته جيدة بل ممتازة.

يقول: كم حسبت حساباً لهذه الجلسة!

- لا عليك. أنت في أيدٍ أمينة.

نترك البوابة وراءنا، ونستقبل شمس الضحى الرائقة.

نمشي ونمشي، وبعد حوالي ساعة، نكون في الفندق.

أسأله: لديك نية بالخروج اليوم؟

- كلا.

أتركه ليُجري بعض الاتصالات بزوجته وأولاده، وأنزل إلى غرفة الإنترنت تحت. الغرفة داخلية ومنزوية، بجدران من قطع الصخر. تتدلّى من سقفها لمبتان تريقان ضوءاً صفراوياً ضعيفاً، وتحتهما جهازا كمبيوتر موصولان بالشبكة.

أجلس وأفتح على "غوغل"، وأضع بعض العناوين. أضع: "أدباء عالميون زاروا القدس"، وأضع: "مستوطنات حول القدس"، وغير ذلك.

الوقت يمضي بتثاقل. أملّ من متاهات البحث، وعدم دقّته. غير أني لا أقوم، فماذا ورائي؟ أبحث وأبحث، ولا يخلو الأمر من مفارقات وطرافة. فعلى سبيل المثال، وجدت ما هو أكثر من "الشيزوفرينيا" في مواقف ساسة "إسرائيل" وبعض كتّابها، حيال المدينة. فما يقولونه في العلن عنها، غير ما يُبطنون.

ثيودور هيرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، ينقل عنه المؤرّخ اليهودي أفيشاي ريغمان هذه الكلمات: "مدينة أشباح تلك التي يقدّسونها. لقد كرهتها منذ أول نظرة. لا أدري كيف يطيقون العيش فيها؟ كلّ ما فيها يثير التقزز! لم أشعر أنني في يوم من الأيام يمكن أن أحنّ إليها.

من هذا الكذّاب الذي روى لنا أنّ في هذه المدينة سحراً أخاذاً؟ من هذا الكذاب الذي روى أن رائحة القدسية في جبالها تزكم الأنوف؟ أي شعراء أفّاكون أولئك الذين تغنّوا بتلك المدينة الملعونة؟ لا جمال هناك لا سحر هناك، لا قدسية هناك. حاخامات في حائط المبكى تدور رؤوسهم كما الرحى، منظر يثير الاشمئزاز لعيون ترقب منظراً آخر. مع أنني أقول في العلن إن تلك المدينة المقدسة التي صلى اليهود منذ ألفي عام لكي يعودوا لها وحلموا أن يكونوا في قلبها وأطرافها وسأظل أقول ذلك إلا أنني كدت أشعر بالاختناق عندما شاهدتها من بعيد.

ولأنني سياسي لا مجال للعاطفة في التأثير على تفكيري، ولأنني يهودي يهدف إلى تحقيق حلمه القومي، فالقدس هي قلب الخطاب القومي للصهاينة، فسأبقى أكرر أن القدس هي قلب الشعب اليهودي النابض ومحط أنظار أبنائه في كل بقاع المعمورة، لكن في الحقيقة فإنني لا أقبل بالقدس كنعال لي".

أما غولدا مائير فتقول لبطانتها: "لو ترك الأمر لي لما وطأت قدماي أرض القدس على الإطلاق، فعندما أطأها يصيبني الانقباض والضيق والضجر" فيما الكاتب الصهيوني الفرنسي جاك فابيوس يقول: "سأظلّ أقول لأطفالي إن القدس لنا وسأظل أقول لهم هلمّوا للقدس وسأظل أدافع عن حقنا بالاحتفاظ بالقدس إلى أبد الآبدين، لكن صدقني: إنني لم أطق أن أظل فيها ساعة. لن أعود هناك، لن أعيش فيها أبداً. سأبقى أتغنى بها أمام الجماهير اليهودية وسأظلّ أحكي لليهود الذين لم يهاجروا بعد عن سحر القدس وجمالها لكنني أعرف أنني أخونهم أيما خيانة".

فماذا يقول شعراؤهم أيضاً؟ هنا كلمات الشاعر أبراهام جينوم بالحرف: "تحدّث أيها الأبله ما شئت عن القدس، فهذا لا يعنيني. لست في حاجة للاستماع إلى تلك الترّهات. دعك من هذا الحديث الفارغ عن القدسية والسحر فهذا طعام الجهلة والمخبولين. أما أنا، فاذبحني في تل أبيب، نعم في تل أبيب أريد أن أحيا، في تل أبيب أريد أن أمرح، في تل أبيب أريد أن أسكر حتى الثمالة".

والعهدة طبعاً على عّمنا السوريالي غوغل! وإن كنت أصدّقه هذه المرّة، فمعروف عن هيرتزل وغولدا أنهما كانا ملحديْن، فيما الكاتب الفرنسي والشاعر الآخر، علمانيان. فلمَ لا يضيق جمعهم بالقدس، وهي تحمل من الرموز أثقل مما تحتمل ظهورهم؟

أواصل البحث، فأظفر بأعلام أدب زاروها، وكتبوا انطباعاتهم ورسائلهم. فهذا نيكولاي غوغول، الذي مكث في المدينة أسبوعين، يكتب في رسالة بعثها لأحد أصدقائه عام 1850 ما يلي: "لقد قمت برحلتي إلى القدس كي أعرف شخصياً وكي أدرك بنفسي كم كان قلبي ممتلئاً بالقسوة.

كم كانت كبيرة تلك القسوة، يا صديقي! لقد كان لي الشرف بأنني أمضيتُ ليلة قرب قبر المخلِّص، كان لي الشرف بأن انضممتُ إلى تلك الأسرار العظيمة المقدسة القائمة فوق ذات الضريح، ورغم ذلك لم أصبح أكثر نقاء، في حين كان من الضروري أن يحترق كلّ ما هو أرضي عندي فلا يبقى سوى ما هو سماوي".

وهذا غوستاف فلوبير الذي مكث مدّة أطول، يكتب في رسالة بعثها لأمّه في السنة ذاتها ما يلي: "تبدو لي البلاد رائعة، على عكس ما تُعرف به" وقبلهم ثمة فرنسوا - روني شاتوبريان و جيرار دي نرفال.

أما غيرهم، من أدباء ورحالة، فبالمئات، بدءاً بـ أركوبلي ألفرنيس وويليبالد البريطاني وكذلك ابن جبير الأندلسي مروراً بـ ناصر خسرو الخرساني وابن بطوطة الطنجاوي، وليس انتهاء بـ ليو بولد فايس النمساوي وبورخيس الأرجنتيني وهربرت ماركوزه الأميركي وكونديرا التشيكي وإسماعيل كاداريه الألباني، وجنكيز آيتماتوف القرغيزي، وجاك دريدا وريجيس دوبريه الفرنسييْن وأخيراً، مرشح نوبل الياباني هاروكي موراكامي.

والأخير زار المدينة في شتاء هذه السنة، بعد حرب غزة، وتسلّم ما يسمّى "جائزة القدس لحرية الفرد في المجتمع"، من يد من يسمى "رئيس الدولة" شيمون بيريز ورئيس بلدية الاحتلال في القدس (ضابط وحدة المظلّات سابقاً) نير بركات. تماماً مثل نظرائه القدامى الحاصلين عليها: سيمون دي بفوار (1975) وميلان كونديرا (1985)، وماريو بارغاس يوسّا (1995)، وآرثر ميلر (2003).

غير أنّ ما لا يعرفه العم "غوغل"، وما لا يعرفه كثر من المتأدّبين العرب، هو ذلك الموقف الغريب، وتلك الكلمات الأغرب، التي كتبها بورخيس، متغزلاً بفاشية "إسرائيل"، ومُحقّراً العرب، إثر زيارته القصيرة بعد هزيمة حزيران.

ففي كتابه" خورخي لويس بورخيس/ سيرة ذاتية"، (والذي أملاه من الفم إلى الأُذن على مُترجم أعماله إلى اللغة الإنكليزية نورمان توماس دي جيوفاني، ونشرته مجلة (ذي نيو يوركر) كاملا على صفحاتها في سبتمبر 1970، وصدر في كتاب عن دار ميريت بترجمة عبد السلام شتا عام 2002) - يقول بورخس التالي: "في بدايات 1969 أمضيت عشرة أيام في تل أبيب والقدس بدعوة من الحكومة الإسرائيلية. عدت إلى بلدي بشعور أنني زرت أقدم وهي في نفس الوقت أحدث البلاد.

عدت من بلد شديد الحيوية وفي ركن من العالم كان نصف نائم. منذ أيامي في جنيف كانت الثقافة اليهودية تشغلني، واعتبرتها عنصراً رئيسياً في ما يسمى الحضارة الغربية. أثناء الحرب العربية الإسرائيلية أخذت موقفاً في الحال، وعندما كان فصل القوات غير مؤكّد كتبت قصيدة عن الصراع. بعد أسبوع كتبت قصيدة أخرى عن النصر. وقت الزيارة كانت إسرائيل لا تزال معسكراً مسلحًاً. هناك على شواطئ الجليل تذكرت أبيات شكسبير: "على أرضك سارت تلك الأقدام المباركة/ التي وضعت منذ ألف وأربعمائة عام، من أجل خلاصنا على الصليب".

أكتفي بهذا القدر، وأقوم عن الشبكة، وقد تمققت عيناي، من شحة النور ورداءته. ثمة شابة مريضة على الجهاز الثاني. تجري محادثة على الماسنجر، وتشكو أيضاً من رداءة الإضاءة. إذن فالمشكلة موضوعية وليست في عينيّ. أنا الذي شككت في كفاءتهما، خاصة وقد شارفت الخمسين.

أدخل الحمام الملحق بالغرفة، ثم أذهب للمستَخدم على الكاونتر، وأنقل إليه استيائي واستياء الشابة. يقول إنه سينقل شكوانا للإدارة.

لا بأس. أقف لحظات على الباب الخارجي، وأُفكّر في السؤال عن بلفون محمود شقير. محمود يسكن هنا، غير بعيد، في إحدى قرى القدس.

لم أتمكّن من رؤيته في الزيارة الأولى، لانشغالي وانشغاله هو بالسفر. إذ سافر إلى ألمانيا، في زيارة أدبية. والأكيد أنه عاد الآن.

أفكّر أيضاً في "الشيخ" جميل السلحوت. وفي تلك العصبة من مثقفي وأدباء المدينة، الذين بلغوا أوج نشاطهم أيام الاحتلال، إبان وجود مقرّ اتحاد الكتّاب في منطقة الرام، ثم فرّقتهم "اتفاقية أوسلو" شذر مذر. أين هم الآن؟ لم أعد أسمع عنهم. بعضهم ربما غادر البلاد، وأغلبهم ركن إلى الصمت، بعد أن صارت الدنيا غير الدنيا، وثقُلت عليهم وطأة العمر والمسؤوليات. أفكّر في غير اسم، وأشعر بالأسى لما وصل إليه الحال.

في الجوار، ثمة فسحة أشبه بمتنزه بسيط، ملاصقة لمستشفى المقاصد. أمشي وأجلس على أحد المقاعد الحجرية: المتنزه خالٍ من الرواد، فقد انتهى شهر رمضان، حيث كان سكان الحيّ يجلسون هنا، بعد صلاة العصر، في انتظار ساعة الإفطار.

أتابع السيارات وحركة المقدسيين. نساء يعبرن بحجاب وجلباب، وفتيات قليلات يمررن حاسرات الرأس.

أفكّر: القدس مثل غزة، تذهب أكثر للمحافظة. القدس مثل غزة، مع فوارق الخصوصية، تنحو منحى الرجوع للدين والتديّن. وماذا أمامها وقد تُركت معزولة أمام فاشيتهم وعنصريتهم؟ أفكّر: الدين هو ملاذ المعذبين الوحيد، خاصة بعد خذلانهم من قبل القوى الوطنية والعلمانية.

لن أنسى ما قاله لي أحد السكان هنا: مَن يدافع حقيقة عن القدس، ليس أبو مازن، ولا سلطة رام الله، وإنما هو الشيخ رائد صلاح.

القوى الإسلامية، داخل الخط الأخضر وداخل القدس، مرتبة ومنظمة، وهي من تواجه في الميدان، أكثر من سواها. سواها فقط يجيد "النضال التلفزيوني": يناضل أمام الكاميرا، لدقائق أو ثوان، وبعد أن ينتهي التصوير، ترجع ريمة لعادتها القديمة.

يا ويلي! أتمنى ألا يكون هذا الكلام دقيقاً، وإلا فهي المصيبة.

يمرّ أحد الشباب مسرعاً. قبل أن يبتعد، أتذكّره وأنادي عليه. يلتفت باستغراب، ثم بعد وهلة يعرفني، ويأخذني بالأحضان. إنه أحد المرضى الذين جاورونا في مستشفى مار يوسف. مواطن من قرى بيت لحم، متزوج من مقدسية، وحاصل على الهوية الزرقاء. جاءنا ليعمل عملية استخراج حصى من المثانة.

- كيفك يا راجل يا طيب، وين رايح؟

- أنا أسكن هنا، في آخر سليمان الفارسي.

- كيف الصحة بعد العملية؟

- الحمد لله. تمام.

- وماذا عنكم؟

- حوّلونا للمطّلع ونقيم في الفندق.

- أمانة إذا ينقصكم حاجة، لا تخجل.

- بوركت يا شيخ، وجزاك الله خيراً.

- نحن أخوة، أمانة.

- والله لا ينقصنا شيء.

- سأمرّ عليكم في الفندق، سلامي لأخيك.

- ننتظرك.

- إن شاء الله بعد غد سأزوركم في المساء.

أشعر بتحسن في معنوياتي. يذهب الشيخ إلى غايته، وأقوم راجعاً.


* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة، والنص حول تجربته في عام 2009

المساهمون