Skip to main content
وسترن الأخَوين كُون: كلاسيكية تُقدِّم المختلف
محمد هاشم عبد السلام
"أنشودة باستر سكراغز" للأخوين كُوِن (الملف الصحافي للفيلم)
صحراء مُترامية الأطراف. صهيل خيول، ووقع خطواتها على أرض رملية قاحلة أو صخور صلبة. مهارة امتطاء الجياد. لعلعة رصاص وحِرفية إطلاقه. دقّة تصويب. مبارزات أسلحة في أحياء ومدن صحرواية ذات مبانٍ خشبية. انهمار طلقات. عشرات القتلى. قوام ذكوري رياضي ممشوق، وصدور عارية، وأحذية ذات كعوب حديدية، و"غيتار". مُهاجمة قرى. إغارة على قوافل. مطاردة خارجين على القانون. صعوبة حبّ. ندرة نساء. بحثٌ محموم عن الذهب. وطبعًا، هنودٌ حُمر إنْ كانوا أخيارًا أو أشرارًا. وبالتأكيد، مُوسيقى تصويرية مُميّزة. 

المُفردات السابقة، وغيرها الكثير، ضاربة بعمق في صميم أفلام الوسترن. هي من أهم مميّزات هذا النوع السينمائي، الذي تُحبّه شريحة واسعة من جمهور السينما على امتداد تاريخها، وهذا ينطبق على أقوى الأفلام وأضعفها. طبعًا، تصعب صناعة فيلم وسترن قياسًا على عراقة هذا النوع السينمائي، والخروج بفيلمٍ ذي قدر كبير من الفنيّة والعمق والأصالة، وقبل كل شيء من الجِدّة. لكن "أنشودة باستر سكراغز" للأخَوين جويل وإيثان كُوِن فيلم وسترن بالكامل.
جمهور هذا النوع مُتَطَلِّبٌ أساسًا. يمقت التكرار وعدم الخروج على المألوف. تَطَلُّبِه عائد، في جزء منه، إلى طبيعة النوع الذي يصنع أفلامًا تخرج على المألوف. الروتين أو القوالب الجاهزة أو الكليشيهات قاتلة للفيلم وللمُشاهِد معًا. لذا، هناك معضلة كبيرة تواجه من يُخرِج فيلم وسترن. لكن معضلة "أنشودة باستر سكراغز" أكبر، فالأمر يتعلّق بمُخرِجين اثنين غير عاديين، لهما ثقل وحضور. بصمَتُهما بارزة في هذا النوع السينمائي. حاصلان على جوائز عديدة. لكن آخر ما قدّماه لم يكن على المستوى المطلوب نهائيًا، ولم يتناسب مع اسميهما، إذْ طغى عليهما جورج كلوني كبطل "يحيا، قيصر!" (2016). هذا ليس فيلم وسترن، وإن تضمّن مشاهد عابرة منه لضرورة درامية.

في "أنشودة باستر سكراغز" ـ الفائز بجائزة أفضل سيناريو في الدورة الـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ تجاوز الأخَوان كُوِن عقبات عديدة، وقدّما فيلمًا يُتوقّع أن يُحقِّق نجاحًا جماهيريًا. أبدعا في صنع وسترن بلمسات فنية مختلفة. عملٌ ممتع ومشوّق ومثير، لا يخلو من العمق، وينتمي إلى الوسترن بكل ما للكلمة من معنى. فيه، تفوّقا على نفسيهما في فيلمٍ يُعتبر نافذة جديدة صنعاها لإدخال هواء نقيّ إلى "عالم وسترن" المُتحجِّر منذ زمن في قوالب انحدرت به فنيًا. لا يعني هذا أنهما أحدثا انقلابًا. لكنهما ببساطة قدّما فيلمًا مُغايرًا وجديدًا بالنسبة إلى الوسترن وتقاليده.

إضافات فنية بسيطة وغير مُفتعلة ساهمت في صنع فيلم وسترن بشكل غير مُعتاد، مع أنه لا يخرج على الإطار التقليدي لهذا النوع، بدليل استخدامه المفردات المذكورة أعلاه. التغيير حاضرٌ مثلاً في تقسيمه إلى 6 حلقات مُنفصلة بعضها عن البعض الآخر بأبطال مُختلفين، تتراوح مدّة كل حلقة منها بين 20 و25 دقيقة، وتُجمع كلّها بأفكارٍ وجودية ومفاهيم عامة، كالحياة والموت والطمع والقسوة.

الحلقة الأولى تحمل عنوان الفيلم نفسه. فيها ما يُشبه الوسترن الغنائي المخلوط بقصّة تقترب أحداثها الطريفة من الـ"فَارْس" المسرحي، وتنتهي نهاية غريبة: سقوط باستر سكراغز (تيم بلايك نيلسن)، راعي البقر (كاوبوي) المُحترف، على الأرض صريعًا، بعد سخريته من مبارِزِه والاستهانة به. لم يقف الأمر عند هذا، إذْ اختُتِمَت القصّة بباستر سكراغز مُغنّيًا أنشودة ساخرة، بينما تصعد جُثته إلى السماء بعد أنْ نَبَت لها جناحان (تمّ صُنع هذا المشهد بفضل تقنيات الكمبيوتر والغرافيك الواضح استخدامها).

إلى ذلك، كسر الأخَوان كُوِن الجدار الرابع، جاعلَين المُمثل يتحدّث مُباشرة إلى المُشاهد، بتوجيهه كلامه إلى الكاميرا. هذه انتهاكات وخروقات فنية لافتة للانتباه، تُصيب الأسس الرصينة والقواعد العريقة للوسترن الجاد. كما أنهما لم يعتمدا على الأداء التمثيلي أو على أسماء النجوم، رغم وجود جيمس فرانكو وليام نيسون وزوي كازان وغيرهم. فالاهتمام الأساسي منصبٌّ على سيناريو (كتابة الأخوين كُوِن)، في حين أن القصص مُختلفة والحبكة متنوّعة.

كأي عمل فني مُنفصل الأجزاء، يحدث تلقائيًا أن يُقارِن المُشاهدُ بين القصص أو الأجزاء، وأن يسعى إلى إيجاد المُختلف أو المُشترك بينها، أو الربط بين العنوان ومغزى القصّة. وأيضًا: تبيان أوجه القوة والضعف، وما يتعلّق بسياقها الترتيبي، وغيرها من المُقارنات. يصعب القول أن هناك رابطًا مُشتركًا بين القصص يسهل رصده والإمساك به، في جديد الأخَوَين كُوِن. هذه إشارة إلى المغزى الذي يرغب الأخَوان المخرجان في إيصاله. لا يعني هذا خلو الفيلم من المعنى، أو أن مغزاه غير واضح، أو أن المخرِجَين أسيرا تفاهة وانعدام عمق، أو أن قصص الفيلم وحبكاتها متساوية في التشويق والإثارة والسخرية والعمق والتجديد الفني. في الفيلم عمق كبير بوضعه معاني القصص جنبًا إلى جنب. وهو، فنيًا وبصريًا، يمتلك تجديدًا وطرافة وخرقًا للسائد والجامد في أفلام الوسترن.

فعليًا، يُحسب للأخوين جويل وإيثان كُوِن تقديمهما فيلمًا سينمائيًا مُكتمل البناء والتنفيذ، لا مُجرّد أجزاء من مسلسل تلفزيوني مُنفصل الحلقات.