Skip to main content
وداع ووجع
مصطفى العادل
قرأت في رسالتها الأخيرة التي كتبها لي ذات أمل "اللَّيْ إعاوْنْ"، كتبتها من دون أن تختار لها سياقاً يناسبها، ربما لأنّها لم تقرأ الأدب العربي في الجامعة مثلي، وربّما لأنّها لم تكن مغرمة باللسانيات الحديثة التي دفنت تراثنا، ونظرية السياق التي ضاع وراء البحث فيها نصف عمري من دون أن أفهم (كما هو الحال للطلبة اللسانيين العرب) أساسياتها إلى اليوم.
(اللَّيْ إعاوْنْ) في الثقافة المغربية وفي الخطاب اليومي المتداول والشعبي، وفي الخطاب العاطفي خصوصا، لا تعني الدعاء كما يظنّ بعضهم (ولقد وددت في الحقيقة لو كانت كذلك لأن هذا أرحم لي) حتى لا أتكبّد خسارة قلبين، لكنها رسالة وداع بمزيج من الألم والحسرة، رسالة وداع بخليط من الاستبداد الذي صار جزءا من دم العرب والإنسان العربي في عالمنا المعاصر هذا الذي يفجعنا كل يوم بجريمة يندى لها الجبين العربي والإنساني.
قيل في المثل العربي "من عاشر قوما أربعين يوما صار منهم"، لذا لا أستغرب أن تكون، على الرغم من الحب، قد تعلّمت من طغاتنا، ما دامت أنّها عاشرت هذه الأنظمة العربية التي سقطت، وشهدت مرحلة صعود الغزاة في شريط سقوط تاريخنا العربي المرير، تاريخ هدم حضارتنا العريقة ومسح معالمها. ذلك الشريط الذي تابعناه خلال عقود بكلّ براءة في فضائياتنا العربية التي لا تراعي عدم قدرتنا بعد على متابعة جمع أشلاء جثث إخوتنا في كل شبر عربي وبلد عربي مبتلى بالاستبداد وما يصدر عنه.
عزيزتي عاشت هذه المرحلة التي حوّلت طيبة الفتيات إلى قسوة، فلم تعد تهاب شيئاً، لقد رأت كيف سقطت خناجر حكام العرب من فوق رقابنا، في الوقت الذي صوّبت فيه بنادق أحفاد بوش وشارون نحو أطفالنا وأمل أمتنا، فبتنا بين نارين، نار الاستبداد ونار الاحتلال.
ألتمس لها هذا العذر وهو واحد من سبعين عذراً، فأنا أيضاً لم أعد أهاب الموت، لقد أدركت أنّ حياتنا بيعت قبل عقود من الزمن، أو قل قرون، إلا أنّ دعابة عالم الحرية والأمن والسلام ما تزال ترحمنا، ما دمنا نحبو في ذلّ إلى من سلّمونا للموت الذي لا قبر بعده، وإلى أقدام من تسلمونا هناك أكباش فداء.
بعد تلك الرسالة الحزينة غابت عني، فقد مرّ يومين إلى الآن من دون أن تصلني منها رسالة، لم أعد أسمع صوتها الذي ينسيني هموم أمتنا وشعوبنا المحرومة حتى من حق الموت في راحة. اليوم بعدما وضعت قلمي وقرّرت أن أكتفي بما دوّنته من آلام العرب في الخليج العربي، جرائم السعودية الشنيعة، استشهاد الرجال في بيت المقدس، موت المستقبل العربي في سورية والعراق، احتضار الأمل في بلاد الغرب الإسلامي... قرّرت الدخول إلى غرفتي وعقارب الساعة تشير إلى الواحدة ليلا.
فكّرت بها وشعرت بالغربة من دون كلماتها وصوتها الجميل، أخذت هاتفي واطّلعت على حسابها في وسائل التواصل الاجتماعي، وتأكّدت أنها لم تظهر في العالم الافتراضي منذ يومين، كتبت لها رسالة قبل ست ساعات من دون أن أتلقى جوابا. فتحت معرض الصور في هاتفي، وسألت صورتها عن سبب الغياب، حتى شعرت بدمعة حارة على خدي، تأملت قليلاً في صورتها، وسألت الله أن تكون بخير. احتضنت هاتفي باكياً كما احتضنت ذكريات الأمة العربية وماضيها الجميل، ثم قرّرت الصوم على مواقع التواصل الاجتماعي، وقرّرت إغلاق حسابي يوما كاملا، علّني أعود بعد ذلك كما يعود أمل الصائم وفرحته بسماع الآذان. في الحقيقة، كان هذا القرار مؤلماً وصعباً، لكنني قرّرت أن أخبرها أن هاتفي ووجودي في العالم الافتراضي لا معنى له دونها.
اسمحوا لي الآن، فالساعة تشير عقاربها المتشائمة إلى الثانية ليلا، سوف أنام لأستيقظ على أمل واقع آخر، سأصلي الصبح في وقته، لعل ما أرفعه من دعاء يعيدها إليّ بخير ومحبة، ويعيد زمان أمتنا الجميل وزمان أمجادها الرجال، فنحن في حاجة على الأقل لماضينا، ماضي الحب العربي، وماضي الأمجاد والمكارم العربية.
أحلام سعيدة يا عرب.