02 ابريل 2021
.. ودائماً بعد فوات الأوان
.. ودائماً بعد فوات الأوان
رئيف خوري (1913- 1967)
حسناً فعل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بإعادة إصداره كتاب "معالم الوعي القومي" للنهضوي الكبير رئيف خوري (1913 – 1967). هذا الرجل الذي أفنى عمره في الحراك القومي العربي الطليعي، خصوصاً، وهو اللبناني ابن بلدة نابيه المارونية في عمق جبل لبنان، والذي انخرط في النضال الفلسطيني منذ بواكيره الأولى، وعلى أرض فلسطين العربية مباشرةً، ومن خلال ثورة 1936 التي كان أحد رجالاتها، تنظيراً وممارسة فاعلة ورياديّة، فكان أن احمرّت عين الاحتلال الإنجليزي عليه، وصار عرضةً للمراقبة والرصد، بخاصة وأنه كان يحاضر في شؤون السياسة والتاريخ والحريات والتراث العربي. ومن محاضراته، مثلاً، (في مايو/ أيار 1938) في المركز الثقافي الفرنسي في القدس:"ماذا أعطت الثورة الفرنسية العالم؟". كما حاضر في "النادي الأرثوذكسي في بيت لحم" حول موضوع "شبابنا العرب وقواهم الضائعة". وفي النادي نفسه، حاضر لاحقاً حول "أبو العلاء المعري في الميزان". وها إن رئيفاً بعد هذه المحاضرات، وهو الشاب اليافع ابن الـ25 عاماً يتحوّل إلى رمز ثقافي عربي، جعل كل من شاعري فلسطين: أبو سلمى وإبراهيم طوقان يضمّانه، عندما كانا يشكّلان جمعية "عصبة القلم" في القدس، إلى عضويتها، مع أسماء أخرى وازنة مثل: خليل البديري، عارف العزّوني ورجا حوراني.
المهم أن الإنجليز وضعوه نصب أعينهم، وهم يُمكّنون المشروع الصهيوني على الأرض، فطردوه عكساً من فلسطين، بتهمة مشاركته في إعداد وصوغ مطالب الإضراب الكبير في العام 1936، وذلك عندما حاول العودة إلى مركز عمله في إحدى مدارس القدس لاحقاً (أوائل الأربعينيات)، فجوبه بالمنع من الدخول بأمرٍ صارم من المندوب السامي البريطاني، حيث وجد فيه خطراً فكرياً وثقافياً على المشروع بذاته. قال رئيف لصديقه الشاعر اللبناني الراحل، ميشال سليمان، بعد سنوات من الطرد المعكوس في بيروت: "استشعروا أنني أوثّق وأكتب عن فلسطين، وهم يخافون الكتابة والتوثيق، ويعتبرونهما أشدّ خطراً من المواجهة العسكرية نفسها. كما زاد من غيظهم وقلقهم أنني ما كنت أفصل دروس المعرفة والعلم لطلابي عن مجريات الواقع وتطوراته على الأرض الفلسطينية".
في كتاب "معالم الوعي القومي" – 1941، والذي أعاد إصداره، أخيراً، كما أشير، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وفي إطار سلسلة نشرية، جديدة من نوعها، سمّاها "طي الذاكرة"، يكتب جمال شحيد في تقديمه الكتاب: "يستهل خوري كتابه بالقول إن ما كُتب باللغة العربية عن القومية "ليس بيسير القدر"؛ وإنه سيناقش كتاباً واحداً عن هذا الموضوع فقط، هو كتاب "الوعي القومي" لقسطنطين زريق، الصادر عن دار المكشوف عام 1930. يتوقف خوري بدايةً عند الهدف الذي حدا بزريق أن يكتب كتابه هذا، أي بناء "فلسفة قومية عربية"، تتمتّع بسماتٍ عربية بحتة أُعدّت للعرب دون سواهم. ويلاحظ خوري أن ما قاله زريق عن هذه الفلسفة القومية أشبه بوعظ ممل "سمعناه، مرة بعد أخرى، في كل كتاب ومدرسة من مدارس الأحد". فكيف نرسم معالم فلسفة قومية قبل أن نقيم كياننا القومي؟
وينتقل خوري إلى معنى "الوعي القومي" و"الرسالة القومية"، وهما أصلاً الموضوعان اللذان يحتلان مكان الصدارة في كتاب زريق. يتوقف عند مكوّنات الوعي القومي، كما حدّدها زريق، أي الجنس واللغة والثقافة، ويرى أن هذه المكوّنات غائمة في نص زريق، لأن مسألة العرق أو الجنس شائكة؛ وعندما يطلب زريق من العربي الواعي قومياً أن "يضع يده على أصل الجنس العربي"، يسخر خوري: أيجب على هذا العربي أن يعود إلى جدنا آدم مثلاً، أو إلى حفيده سام الذي ترك اسمه على اللغات السامية، ومنها العربية؟. وعندما يربط زريق بين الوعي القومي ونبوغ اللغة العربية، يرى خوري أن كلمة "نبوغ" هي كلمة إشكالية، لأن اللغات كلها عرفت فترات صعود وهبوط في تاريخها، ولا تُستثنى العربية من هذا القانون، لأن التطوّر اللغوي جزء من التطوّر المعرفي والثقافي والعلمي والاجتماعي والاقتصادي.
هكذا، الملاحظ عن رئيف خوري، والكلام لجمال شحيد، "أنه يسخر من المفاهيم الرومانسية والغائمة التي تعتور نص قسطنطين زريق، فيتوقف مثلاً عند قوله: "إن لكل أمة من الأمم رسالتها الخاصة تؤدّيها إلى المجتمع الإنساني"، و"إن القوة المدبّرة وراء هذا الكون قد أعدت العرب لأمرٍ لا يستطيع أي شعب آخر أن يقوم به دونهم"، ويرى أن مسألة "القوة المدبّرة" أو "القدَر" ترسم برنامجاً يُلزم العرب تنفيذه، ويُفقدهم مسؤولية المبادرة الحرة، ويعلّق على هذه "الرسالة الخاصة": "إنها زي دارج من أزياء التعابير المستحدثة، والتي أخذت بها بعض الأحزاب السياسية التي ابتلي بها العرب. فلا توجد رسالة واحدة، بل مائة رسالة ورسالة.
باختصار، نحن هنا، ومن خلال مقدّم الكتاب، أمام رؤيتين متغايرتين للوعي القومي: رؤية مثالية وطوباوية عند قسطنطين زريق، ورؤية واقعية جدلية عند رئيف خوري. على أن الوعي القومي العربي الواقعي الجدلي لدى خوري هو الذي قاده إلى الخلاف الكبير مع الاتحاد السوفياتي، ومع "الرفاق" في الحزب الشيوعي اللبناني في الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت. فهو أخذ على القيادة السوفياتية، في ذلك الحين، أنها لم تحلّ موضوع القوميات حلاً عادلاً ومقنعاً كما تدّعي؛ وتساءل: "أين حلّته؟ وكيف؟".. كما صرّح "لا أعتبره ماركسياً كل ماركسي يقول إن فلسطين ليست عربية وليست لأهلها العرب". وبشيء من النقد الناعم، ولكن الأعمق تأثيراً من أي نقد آخر، يتساءل رئيف خوري في كتابه "الثورة الروسية، قصة حضارة جديدة": "لم أجد تجاه العرب في حقل السياسة الخارجية التي يتبعها الاتحاد السوفياتي ما لا أؤيده، سوى اقتراع المندوب السوفياتي في جامعة الأمم المتحدة بالموافقة على تقسيم فلسطين..". وهو موقفٌ يلتقي فيه السوفيات مع الغرب الإمبريالي على حلّ "المشكل اليهودي" على حساب شعب عربي يُطرد من أرض آبائه وأجداده. ومتى؟ في زمن يفترض فيه أنه يشهد زوال الاستعمار، كما يقال.
وانتقد رئيف خوري رفاقه الشيوعيين اللبنانيين والعرب، لأنهم سكتوا على هذه الفاجعة القومية الخطيرة، بل أسكتوا وزُجروا بالقوة من موسكو وقتها. وهنا، الأدهى، في رأي هذا المفكر الماركسي العربي الحر، والذي كان يفترض برفاقه الشيوعيين العرب (كما يأمل) أن يكونوا ديمقراطيين وأحراراً مع أنفسهم في المقام الأول، وقبل إعطاء أي درس للآخرين. فوقعت، إثرها، حرب شعواء بين رئيف خوري من جهة، وجبهة عربية/ دولية ممثلة بالاتحاد السوفياتي السابق ومنظومته الاشتراكية السابقة وكل المؤيدين لهما في العالم من جهة ثانية. وكانت النتيجة أن وُضع الحرم على رئيف خوري، ونُبذ وعُزل وأفرد إفراد البعير المعبد.
لاحقاً، حاول الرفاق السابقون تعديل الموقف، بما يشبه الاعتذار التاريخي للرجل الكبير. ولكن ودائماً بعد فوات الأوان.
المهم أن الإنجليز وضعوه نصب أعينهم، وهم يُمكّنون المشروع الصهيوني على الأرض، فطردوه عكساً من فلسطين، بتهمة مشاركته في إعداد وصوغ مطالب الإضراب الكبير في العام 1936، وذلك عندما حاول العودة إلى مركز عمله في إحدى مدارس القدس لاحقاً (أوائل الأربعينيات)، فجوبه بالمنع من الدخول بأمرٍ صارم من المندوب السامي البريطاني، حيث وجد فيه خطراً فكرياً وثقافياً على المشروع بذاته. قال رئيف لصديقه الشاعر اللبناني الراحل، ميشال سليمان، بعد سنوات من الطرد المعكوس في بيروت: "استشعروا أنني أوثّق وأكتب عن فلسطين، وهم يخافون الكتابة والتوثيق، ويعتبرونهما أشدّ خطراً من المواجهة العسكرية نفسها. كما زاد من غيظهم وقلقهم أنني ما كنت أفصل دروس المعرفة والعلم لطلابي عن مجريات الواقع وتطوراته على الأرض الفلسطينية".
في كتاب "معالم الوعي القومي" – 1941، والذي أعاد إصداره، أخيراً، كما أشير، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وفي إطار سلسلة نشرية، جديدة من نوعها، سمّاها "طي الذاكرة"، يكتب جمال شحيد في تقديمه الكتاب: "يستهل خوري كتابه بالقول إن ما كُتب باللغة العربية عن القومية "ليس بيسير القدر"؛ وإنه سيناقش كتاباً واحداً عن هذا الموضوع فقط، هو كتاب "الوعي القومي" لقسطنطين زريق، الصادر عن دار المكشوف عام 1930. يتوقف خوري بدايةً عند الهدف الذي حدا بزريق أن يكتب كتابه هذا، أي بناء "فلسفة قومية عربية"، تتمتّع بسماتٍ عربية بحتة أُعدّت للعرب دون سواهم. ويلاحظ خوري أن ما قاله زريق عن هذه الفلسفة القومية أشبه بوعظ ممل "سمعناه، مرة بعد أخرى، في كل كتاب ومدرسة من مدارس الأحد". فكيف نرسم معالم فلسفة قومية قبل أن نقيم كياننا القومي؟
وينتقل خوري إلى معنى "الوعي القومي" و"الرسالة القومية"، وهما أصلاً الموضوعان اللذان يحتلان مكان الصدارة في كتاب زريق. يتوقف عند مكوّنات الوعي القومي، كما حدّدها زريق، أي الجنس واللغة والثقافة، ويرى أن هذه المكوّنات غائمة في نص زريق، لأن مسألة العرق أو الجنس شائكة؛ وعندما يطلب زريق من العربي الواعي قومياً أن "يضع يده على أصل الجنس العربي"، يسخر خوري: أيجب على هذا العربي أن يعود إلى جدنا آدم مثلاً، أو إلى حفيده سام الذي ترك اسمه على اللغات السامية، ومنها العربية؟. وعندما يربط زريق بين الوعي القومي ونبوغ اللغة العربية، يرى خوري أن كلمة "نبوغ" هي كلمة إشكالية، لأن اللغات كلها عرفت فترات صعود وهبوط في تاريخها، ولا تُستثنى العربية من هذا القانون، لأن التطوّر اللغوي جزء من التطوّر المعرفي والثقافي والعلمي والاجتماعي والاقتصادي.
هكذا، الملاحظ عن رئيف خوري، والكلام لجمال شحيد، "أنه يسخر من المفاهيم الرومانسية والغائمة التي تعتور نص قسطنطين زريق، فيتوقف مثلاً عند قوله: "إن لكل أمة من الأمم رسالتها الخاصة تؤدّيها إلى المجتمع الإنساني"، و"إن القوة المدبّرة وراء هذا الكون قد أعدت العرب لأمرٍ لا يستطيع أي شعب آخر أن يقوم به دونهم"، ويرى أن مسألة "القوة المدبّرة" أو "القدَر" ترسم برنامجاً يُلزم العرب تنفيذه، ويُفقدهم مسؤولية المبادرة الحرة، ويعلّق على هذه "الرسالة الخاصة": "إنها زي دارج من أزياء التعابير المستحدثة، والتي أخذت بها بعض الأحزاب السياسية التي ابتلي بها العرب. فلا توجد رسالة واحدة، بل مائة رسالة ورسالة.
باختصار، نحن هنا، ومن خلال مقدّم الكتاب، أمام رؤيتين متغايرتين للوعي القومي: رؤية مثالية وطوباوية عند قسطنطين زريق، ورؤية واقعية جدلية عند رئيف خوري. على أن الوعي القومي العربي الواقعي الجدلي لدى خوري هو الذي قاده إلى الخلاف الكبير مع الاتحاد السوفياتي، ومع "الرفاق" في الحزب الشيوعي اللبناني في الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت. فهو أخذ على القيادة السوفياتية، في ذلك الحين، أنها لم تحلّ موضوع القوميات حلاً عادلاً ومقنعاً كما تدّعي؛ وتساءل: "أين حلّته؟ وكيف؟".. كما صرّح "لا أعتبره ماركسياً كل ماركسي يقول إن فلسطين ليست عربية وليست لأهلها العرب". وبشيء من النقد الناعم، ولكن الأعمق تأثيراً من أي نقد آخر، يتساءل رئيف خوري في كتابه "الثورة الروسية، قصة حضارة جديدة": "لم أجد تجاه العرب في حقل السياسة الخارجية التي يتبعها الاتحاد السوفياتي ما لا أؤيده، سوى اقتراع المندوب السوفياتي في جامعة الأمم المتحدة بالموافقة على تقسيم فلسطين..". وهو موقفٌ يلتقي فيه السوفيات مع الغرب الإمبريالي على حلّ "المشكل اليهودي" على حساب شعب عربي يُطرد من أرض آبائه وأجداده. ومتى؟ في زمن يفترض فيه أنه يشهد زوال الاستعمار، كما يقال.
وانتقد رئيف خوري رفاقه الشيوعيين اللبنانيين والعرب، لأنهم سكتوا على هذه الفاجعة القومية الخطيرة، بل أسكتوا وزُجروا بالقوة من موسكو وقتها. وهنا، الأدهى، في رأي هذا المفكر الماركسي العربي الحر، والذي كان يفترض برفاقه الشيوعيين العرب (كما يأمل) أن يكونوا ديمقراطيين وأحراراً مع أنفسهم في المقام الأول، وقبل إعطاء أي درس للآخرين. فوقعت، إثرها، حرب شعواء بين رئيف خوري من جهة، وجبهة عربية/ دولية ممثلة بالاتحاد السوفياتي السابق ومنظومته الاشتراكية السابقة وكل المؤيدين لهما في العالم من جهة ثانية. وكانت النتيجة أن وُضع الحرم على رئيف خوري، ونُبذ وعُزل وأفرد إفراد البعير المعبد.
لاحقاً، حاول الرفاق السابقون تعديل الموقف، بما يشبه الاعتذار التاريخي للرجل الكبير. ولكن ودائماً بعد فوات الأوان.