وجه آخر للجنس اللطيف

وجه آخر للجنس اللطيف

27 ابريل 2020

(بول غيراغوسيان)

+ الخط -
"بلدانهم ما تبيهم وإحنا نبتلش (نبتلي) فيهم؟ إحنا وصلنا لمرحلة إننا ملّينا خلاص. أَطلعهم وأَقطّهم (أطردهم) برا والله لو أقطّهم بالبر (الصحراء)". بهذه العبارات الصادمة، أثارت الممثلة الكويتية، حياة الفهد، جدلاً كبيراً، بين مؤيد ومعارض لتحريضها على طرد العمالة الوافدة في ظل أزمة فيروس كورونا الجديد. لم تعتذر الممثلة عن تصريحاتها، ونفت تهمة العنصرية التي وُجّهت إليها، ربما لجهلها التعريف المتعارف عليه دولياً بأنها "كل تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الجنس". ولأن خطاب الكراهية ينتشر كالنار في الهشيم، فسرعان ما تحول موقف حياة الفهد إلى حملةٍ عنصريةٍ تقودها شخصيات نسائية مؤثرة.
لم تمضِ أيام على أقوال "سيدة الشاشة الخليجية" حتى دخلت المذيعة الكويتية، نادية المراغي، على الخط، لتتحدث عن رائحة الغرف "المعفنة" التي تؤوي الوافدين المخالفين قانون الإقامة. وأخذ الحديث عن "بلوى" و"عفن" الأجانب بعداً سياسياً، وطالبت النائبة في مجلس الأمة الكويتي، صفاء الهاشم، بـ"تطهير" البلد من العمالة المخالفة، واتهمت الوافدين بنشر الوباء، وحذّرت من "الخطر" الذي يشكلونه على الكويت، خصوصاً وقد أصبح ضررهم أكبر من نفعهم، على حد قولها. لقيت دعوات الترحيل إقبالاً وسط النخبة النسائية، ونادت الكاتبة خلود إبراهيم بترحيل مليوني وافد على الأقل، لإنقاذ بلدها من خطر الأجانب.
إلقاء اللوم على الوافدين وغضّ الطرف عن مسؤولية الحكومة التي سهّلت الاتجار بالبشر عبر 
نظام الكفيل ليس جديداً على المجتمع الكويتي وجيرانه. الجديد هنا، سلوك نساء يشجعن على بثّ سموم العنصرية في المجتمع ونشر الكراهية، سلوك يزعزع الصورة النمطية للأنثى اللطيفة، الحنون والمسالمة. حياة الفهد، وصفاء الهاشم، وغيرهما من النساء اللاتي لم ترقّ قلوبهن للغرباء في زمن محنة كورونا، نساءٌ بلا رحمة، قسوتهن تطرح أكثر من تساؤل بشأن النظرة التبسيطية للمجتمع التي رسّختها بعض الحركات النسائية عبر العالم، والتي تقسّم المجتمع إلى طرفين لا ثالث لهما: الرجل الشرير، الجلاد، العدائي بالفطرة والمرأة الطيبة، المسالمة والضحية.
وبناءً على هذه النظرة التي تقدّم المرأة رمزاً للسلام الإنساني، تبنّى مجلس الأمن الدولي سنة 2000 القرار 1325 عن المرأة والسلم والأمن، مشدّداً على "الدور الهام للمرأة في منع الصراعات وحلها وفي بناء السلام"، من دون أن يقدّم دليلاً على سلمية النساء التي لا تعدو أن تكون مجرّد أسطورة. فالنساء في ألمانيا النازية لم يمنعن الهولوكوست، بل شاركن في جل مراحل القتل الجماعي، وكنّ جزءاً من آلة الإبادة التي تميزت ببيروقراطيتها المحكمة، إذ عملت أكثر من نصف مليون امرأة في جبهات الجيش النازي، وشاركت آلاف الممرّضات في برنامج "القتل الرحيم" عبر الحقن المميتة، وشغلت ملايين النساء وظائف إدارية، لولاها لما دارت رحى الحرب. ولم تمنع النساء في كمبوديا المجازر الجماعية التي ارتكبها نظام الخمير الحُمر أيضاً، بل ارتكبن الفظائع نفسها التي قام بها الرجال في"حقول الموت". وفي رواندا، غنَّين ورقصن بينما كانت مليشيات الهوتو تفتك بشعب التوتسي، وتسلّح بعضهن بالعصي والمطاوي، وشاركن في اغتصاب النساء والفتيات. وأدّت وحشية نساء الهوتو إلى محاكمة نحو ثلاثة آلاف امرأة، وفي مقدمتهن بولين نيراماسوهوكو، وزيرة الشؤون الاجتماعية وقضايا المرأة آنذاك، التي دخلت التاريخ أول امرأة تُدان في جرائم الإبادة، إذ خططت للمذابح وأشرفت عليها، 
وأصدرت أوامر بتنظيم عمليات خطف نساء التوتسي، وألحّت على أن يُغتصبن قبل أن يُقتلن.
مخطئٌ من يظن أن القسوة والعنف من شيم نساء العجم فقط، فالتراث العربي والإسلامي يعجّ بممارسات نسائية تراوح بين تأجيج الحروب وضرب الرقاب. ويكفي استحضار مثال هند بنت عتبة، زوجة أبي سفيان وأم معاوية، وهي من أشهر النساء اللاتي حاربن النبي محمد في بداية الإسلام، وأنشدن هذه الأبيات التي تحرّض القرشيين على الحرب، وتحذّر من مغبة انسحابهم من ساحة القتال: "نحن بنات طارق، نمشي على النمارق، إن تُقبلوا نعانق، وإن تُدبروا نفارق". ويحكي عبد الله بن مسعود أنه حين أوشك المسلمون على الانهزام في "غزوة أحد"، راحت الصحابية أم أيمن الحبشية تنثر التراب على وجه بعض المقاتلين، وهي تردّد: "هاك المغزل فاغزل به، وهلم سيفك". كثيرات هنّ النساء اللاتي شاركن في أولى غزوات الإسلام، منهن من ساعدن في إعداد الطعام، وحمل الماء والسلاح، وعلاج الجرحى، وحراسة الأسرى، ومنهن من امتطين الخيل والجمال، وبارزن بالسيف بجانب الرجال.
ولم تكن دائماً المرأة المسلمة تلك الحلقة الأضعف في زمن الحرب، ولم تكن أمَة مأمورة ومسالمة، بل كانت أيضاً سيدة آمرة ومقاتلة، وإنْ لم يتيسر لها الإشراف المباشر على شؤون الدولة. ولعل أبرز مثال على ذلك، ما بلغنا عن دور عائشة أم المؤمنين في أحداث "موقعة الجمل"، إذ ثارت لمقتل الخليفة عثمان بن عفان، وتحالفت مع الصحابيين طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، فأعلنوا الحرب على الإمام علي بن عبد المطلب، بعد أن بويع لخلافة المسلمين، وتأخر في تحقيق القصاص لمقتل عثمان. قادت السيدة عائشة إلى البصرة جيشاً غفيراً حارب تحت إمرتها، في ما يعتبره المؤرّخون أول حربٍ أهلية في تاريخ الإسلام، ففي معركة الجمل، اقتتل صحابة الرسول وآل بيته، وهلك آلاف، بمن فيهم طلحة والزبير، وفُتح باب الفتن على مصراعيه.
استمرّت مشاركة المسلمات في "الفتوحات الإسلامية"، فسواء حملن السلاح أو لم يحمْلنه، فقد 
كانت المرأة جزءاً من الصراعات، حتى وإن وقفت متفرّجة صامتة، أو زوجة مطيعة، أو أختاً مزغردة. منذ عصر ما قبل الإسلام إلى حروب الاستعمار، شاركت النساء في جل الحروب الظالمة والعادلة، وقطعت التاريخ بوجهين أو أكثر: الضحية والجلاد وما بينهما. هذا الإرث هو الذي جعل قرابة ألف مقاتل عراقي يقبلون، منذ أربع سنوات، أن تتزعم أنعام السويعدي مليشيا مسلم بن عقيل، التابعة للحشد الشعبي، وهي أول مليشيا مسلحة تقودها امرأة في تاريخ العراق الحديث. انطلقت السويعدي ورجالها لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي كان وقتها يضم ما يزيد على ألف امرأة موزّعة على كتائب وسرايا شرسة. فمع تصاعد الجهاد الإسلامي، تألقت النساء كانتحاريات في صفوف تنظيم القاعدة، قبل أن يرتمين في أحضان سفاحي "داعش" في العراق وسورية. هاجرن من أوروبا وشمال أفريقيا وحتى آسيا، لينخرط بعضهن في جهاد السلاح، فيما فضلت أخريات "جهاد النكاح"، على ما ذاع وتردّد. مارست جلادات "داعش" العض والركل والجلد بالسياط ضد النساء اللاتي خالفن أوامر التنظيم، فخرجن إلى الشارع دون مَحْرَم، أو ارتدين عباءة غير فضفاضة، أو لم يغطّين وجوههن بالكامل. أدارت الداعشيات سجون النساء، وجلدت بنات جلدتها، ولم نسمع مجلس الأمن الدولي يندّد بجرائم المرأة ضد المرأة.
لقد مارست النساء في منطقتنا العربية العنف بشتى أنواعه، ولعل "ختان الإناث" أكثر الحقائق إحراجاً لكل من يروج أسطورة سلمية النساء، ويسكت عن دور الأمهات والخاتنات في بتر الأعضاء التناسلية لملايين الفتيات، أحياناً رضيعات، واغتصاب أنوثتهن حتى الموت. وعلى الرغم من وجود قوانين تجرّم هذا الفعل الشنيع، ما زالت الخاتنات والطبيبات يمارسن جرائم البتر والتشويه من موريتانيا إلى العراق، مروراً باليمن ومصر والسودان. وبينما نُبذَت هذه الجريمة بوصفها أحد أبرز أشكال العنف والتمييز الجنسي، إلا أنه لم يُرفع بعد شعار "لا لعنف المرأة ضد المرأة".
في انتظار أن يُسَلَّط الضوء على الوجه المظلم للجنس اللطيف، لن تعرف مجتمعاتنا السلم الذي يطالَب به الرجال، وكأن القسوة والعنف وحب السلطة والتسلط حكر على الذكور. المرأة والرجل يحرّكان عجلة التاريخ، ويتقاسمان مسؤولية السلم والحرب، والحب والكراهية، والتقدّم والتخلف بالكامل، ولا سبيل إلى مجابهة ثقافة العنف والعنصرية والتخلف في مجتمعاتنا، من دون أن تنظر المرأة إلى وجهها في المرآة، وتركز نظرتها على ظلمها قبل مظلوميتها.
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري