وثائقيّات لبنانية في بيروت: بوح الذاكرة

وثائقيّات لبنانية في بيروت: بوح الذاكرة

09 مارس 2018
من "يامو" لرامي نيحاوي (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
في شهرٍ واحد، تُعرض 4 أفلام وثائقية لبنانية، في مؤسّسة ثقافية. احتفالٌ أسبوعيّ، تريده المؤسّسة سينمائيًا. "ثلاثاء الأفلام" في "دار النمر" (بيروت). تحديدٌ بسيطٌ، ينفتح على جماليات صورة، تذهب بعيدًا في تفكيك العلاقة الفردية بأحد الوالدين. محاولة سينمائية لتوثيق لحظة انفعالية، غير مكتفية بالمساحة الصغيرة لعلاقةٍ كهذه، بقدر ما تكشف بعض ذاكرة جماعية.
4 أفلام وثائقية، مُنتَجَة قبل أعوام قليلة. أسئلتها مُلحِّة، واشتغالها للكشف والتنقيب والبوح يُمكن وصفه بالآنيّ في الأوقات كلّها، لأن الأسئلة مطروحةٌ دائمًا، وإنْ بأشكالٍ مختلفة.
المشترك بين الأفلام الـ4 ("يامو" لرامي نيحاوي، و"أبي لا يزال شيوعيًا، أسرار حميمة للجميع" لأحمد غصين، و"أبي يُشبه عبد الناصر" لفرح قاسم، و"بيت بيوت" لنادين نعوس) متنوّع: سيرة أب/ أم؛ وسيرة ابن/ ابنة في ارتباطها بسيرة أب/ أم، كما في ارتباط الابن/ الابنة بالأب/ الأم. سيرة بلد واجتماع، مخبّأة في ذاكرة وحكايات. سيرة حربٍ والتزام عقائديّ وهجرة وانفعال.
سِيَرٌ عديدة، تمتلك جمال صورة، وجاذبية مُشاهَدَة، وسحر تفكيك.




المخرجون الـ4 يروون، عبر مواجهات مختلفة الأنماط مع الأب/ الأم، قصصهم هم، في طفولة أو مراهقة أو بدايات شباب. المواجهة غير صدامية؛ وإنْ تكن صدامية ـ أحيانًا ـ فجمالية السينما تخفِّف من وطأتها، بحثًا عن مفردات قول بصريّ، يختزل كلامًا ومواقف وسردًا. التوثيق مفتوح، كلّيًا، على إعادة رسم ملامح زمنٍ، أو بيئة، أو مناخٍ، أو واقع، أو علاقة، أو تفاصيل. التوثيق متحرّرٌ من أشكاله كلّها، كي يتمكّن من سرد خبريات مخرجيه بحرية مطلقة.
أشرطة "كاسيت" قديمة وصُوَر فوتوغرافية قليلة، أساسيّةٌ في "أسرار حميمة للجميع". تشابه الشكل بين والد فرح قاسم والرئيس المصري جمال عبد الناصر، أساسيّ في البناء الدرامي للوثائقيّ هذا، من دون تغييب النصّ الخاص بالمخرجة إزاء والدها، أو حكاية والدها. حضور الطرفين (الأب/ الأم) أمام ندين نعوس وكاميرا "بيت بيوت"، أساسيّ في تشكيل المناخ الإنساني للنص الوثائقي. العلاقات المتداخلة بين بيئات وأفكار ومشاعر، أساسيّة في رواية رامي نيحاوي عن أهلٍ وبلدٍ وحروبٍ وخيباتٍ وآمال.
هذا جزءٌ من وعي فرديّ يرفض إغلاق الماضي على "أسراره". كلّ فيلمٍ يريد فهم شيء من الحكاية المخبّأة لذاكرة مخرجه. كلّ فيلم توّاقٌ إلى معرفة وانتباه وإدراك. كلّ فيلمٍ يصنع مادته من روح صانعه وجسده وأهوائه وانشغالاته وهواجسه ومخاوفه وارتباكاته. كلّ فيلم اغتسالٌ، ليس لمخرجه فقط، بل لمُشاهِده أيضًا، إنْ يرغب المُشاهد في رحلةٍ تأخذه إلى ماضٍ، يُفترض به أن يُروى على ألسنة عارفيه.
لن تكون الأفلام الـ4 هذه وحيدة في سبر أغوار ماضٍ لبناني، أو في تمتين علاقة مخرج/ مخرجة بأب/ أم. هذا نمطٌ سينمائي مُتدَاوَل في صناعة الوثائقي اللبناني تحديدًا. لكن العناوين المختارة لاحتفال "دار النمر" نموذجٌ لفعلٍ إبداعي، يُساهم في بلورة أفق تجديديّ للوثائقيّ ومفرداته.

المساهمون