واقع الأحزاب في المغرب

انهالت ضربات غير رحيمة على الحكومة المغربية، واستهدفها رصاص حي أحياناً، حتى فقد رئيسها أعصابه في أكثر من مناسبة، وبدا غريباً كأي فيلسوف تتقاذفه التهم والإشاعات الفكرية. وعلى الرغم من أن الحكومة أجهدت نفسها مراراً في إظهار حسن نيتها، لازال الرصاص يلعلع، ويرشق الأب والأبناء على حد سواء. ولسوء حظ هذه الحكومة، أنها جلست وراء المقود، في وقت وصلت أزمة المواطن المغربي فيه إلى نضجها الكامل. وفي وقت سالت دماء قانية فوق أرض الجيران، بسبب ثورات الخبز والورود.
غدت المرحلة الراهنة والظرف الإقليمي أكبر بكثير على حكومة التجربة الأولى، لتستجيب لمتطلبات الشعب وطموحاته. عجز أفراد الحكومة عن إيجاد إيقاع عمل موحد، لتنفيذ الحد الأدنى من برنامجها، حتى يتلمس عميان الوطن هذه النية، والتي لا تكفي وحدها لبناء تاريخ الشعوب والأمم، مهما علا حسنها وجمالها.
تكاثرت أعداد المعطَّلين عن العمل، وتكاثرت وقفاتهم، فيما يتابع آخرون وأخريات المحاضرات في مدرجات الكليات وأمامهم سنوات طوال من الوقوف أمام البرلمان والوزارات والبلديات، من أجل المطالبة بحق الشغل، في وقت نجحت فيه الحكومة الحالية في تقليص نسبة البطالة على الأوراق، وفي أحلام القيلولة فقط.
ارتفعت أسعار المحروقات والمواد الغذائية بشكل متواتر، وتم إخراس الموظفين بزيادات طفيفة، فانكمشوا وراء مكاتبهم. فيما تجذرت الأزمة في جيوب البؤساء الصامدين في المعامل والمصانع. وتفاقمت الأزمات الاجتماعية، وكثرت حالات الاغتصاب والاختطاف والطلاق وجرائم الشرف على نحو مأساوي.
ومن الواضح أن الصحافة المستقلة كانت شرسة جداً مع حكومة العدالة والتنمية، أكثر مما فعلت مع الحكومات السابقة، وانطلاقا من ترموميتر السلطة الرابعة، انتبه حزب العدالة والتنمية إلى خفوت نجمه، وتراجع حضوره في وجدان الشعب، حتى كان من توقع خسارة مدوية للحزب في الاستحقاقات المقبلة. وخرج الرئيس يحمل الكرباج في يده، ويعد المزورين بوابل العقوبات، وكأن الانتخابات السابقة التي احتل فيها حزبه المرتبة الأولى كانت شفافة بيضاء، كالحليب.
الأحزاب كانت دوماً مسؤولة عن تزوير الانتخابات، لأنها تقبل بمن يزور لها الكراسي لتجلس فوقها على الرغم من أنف الشعب، وهي تقبل، أيضاً، باستمرار الوجوه نفسها في الإمساك بالحقائب الوزارية، وكأن الدماء متوقفة في شرايين الحزب. وتقبل بضحالة النقاش السياسي في البرلمان ورداءته، حتى أصبحنا نشاهد من يقتحم البرلمان في حالة سكر متقدمة، إضافة إلى النيام تحت قبته، وتناقص عددهم، بسبب عدسات المصورين التي تحرشت بكسلهم.
وازداد استغلال النفوذ، وازداد معه إشهار بنادق الصيد في وجه البسطاء، ورفسهم بالسيارات في الشوارع والطرقات، على طريقة أفلام الرعب. وكثرت فظائع سرقة المال العام، وتهريبه إلى الخارج، من لدن كبار المسؤولين في الوزارات، وأحياناً من وزراء سابقين. واستمرت ملاحقة الصحافة المستقلة، واستنطاق الصحافيين والتضييق عليهم، والزج بهم في السجن، بتهمة توزيع أقراص الوعي على عموم القراء، وعدم التآمر على الفساد.
وماذا فعلت الأحزاب حيال ذلك؟ لا شيء، وسقط اليساريون القدامى سريعاً على الأدراج، وتآكل خطابهم المرصع بالأحلام الوردية، وسقط دفتر الأيديولوجيات المستورد، بعدما عجزوا عن تنزيل محتوياته إلى ساحة الواقع، في أثناء حكومة التناوب، وخيبوا آمال الشعب الذي ظل ينتظرهم بالخبز والفواكه، أمام أبواب السجون والمعتقلات، عقوداً طويلة.
وسقط الحركيون، خدام الوطن الأوفياء، بعدما أحكموا قبضتهم الخشنة على بسطاء القرى البعيدة، وسكان المنحدرات الوعرة طوال عقود. وظلوا يرسمون أحلام الأجيال على اللوحات فقط. وحتى حين أرادوا كتابة مذكراتهم للتاريخ، وجدوا ذاكرة المغاربة قوية، وكان هناك من نبههم لجرائمهم القديمة.
بينما الإسلاميون يسقطون من حسابات الشعب. وأيضاً في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أضحت الحكومة الحالية مستهدفةً بقسوة، كرأس طفل أصلع في ساحة مدرسة عامرة بالمشاغبين، حين عجزت عن تفعيل مقتضيات دستور 2011 التي ظلت حبيسة الأوراق. واستمر التوجيه السياسي والخلاف الفظيع بين أحزاب الائتلاف الحكومي إلى درجة الانسحاب، أحياناً، والاحتماء بجدار معارضة مجانية، أجهزت بالكامل على جودة الخطاب السياسي.
والواقع أن الأحزاب المغربية ركنت إلى صراعاتٍ إيديولوجية وفكرية، وظل خطابها السياسي عاجزاً وبعيداً عن تحديد آليات الإصلاح المجتمعي. وكثر الاحتجاج على نتائج المؤتمرات الوطنية، واستمر الطعن في الانتخابات الداخلية على نحو حاد. واحتدم النقاش السياسي بشأن الديمقراطية المبنية على الأحزاب، حين ظهرت أشكال وحركات نضالية وتعبيرية أخرى، استطاعت أن ترفع سقف مطالب الإصلاح.
مهم جداً للأحزاب المغربية، يسارية أو ليبرالية، أن تحسم في اختياراتها الكبرى، وأن تتجاوز الاشتغال بمكاتب محلية وإقليمية مهلهلة. وأن تفتح قنوات تواصل حقيقية مع المواطن، وتشركه في صياغة مشاريع تنموية، وأن تنتصر للتوزيع العادل للثروات والقيم المجتمعية، بهدف استعادة ثقة المواطنين في الأحزاب، وإعلاء صوت الحزب في احتضان هموم المواطنين.