واسمعي يا جارة!

واسمعي يا جارة!

16 يونيو 2019
+ الخط -
كم يكلفك اندفاعك؟ وكم مرة ندمت على تسرّعك؟ أتذكر مدى الإحراج الذي غرقت فيه نتيجة اندفاعك وتسرعك؟ ألم تخبرني مرة بل مرات أنك أردت أن ترسل لي رسالة ما، رسالة تشكو فيها من فظاظة بعضهم أو بجاحته في التعامل معك، ولاندفاعك وغضبك الشديد إذا بك ترسلها له مباشرة!

شكلك متردد في الجواب، طيب دعك من هذه، ربما تحاول تفادي الموقف وتتصنع النسيان، لكنك بحال لن تدافع عن جورجيا كلارك؛ أليس كذلك؟ كذلك ونص وتلت أربع، المهم متجيش فيك، ده توجّه عام وشعور طاغ.

ومع إن الخال الأبنودي - عليه رحمة الله - قال مرارًا وتكرارًا "حاسب م الاندفاع/ حاذر م الارتفاع"، لكن تقرا مزاميرك على مين يا داود؟! الأخت كلارك هانم عنصرية بشكل مبالغ فيه، تعمل مدرسة لغة إنكليزية بمدرسة ثانوية، في فورت وورث بولاية تكساس الأميركية. ضاق صدرها بالطلاب في الصف، أو بطلاب المدرسة - خصوصًا من المهاجرين والمهاجرات - والتعليم والعيشة واللي عايشينها، المهم قررت أن تكتب إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وأفضل وأسرع كانت "مسيو تويتر".


في 17 مايو/ أيار الماضي، ومن حسابها على تويتر @Rebecca1939 كتبت كلارك رسالة تخبر ترامب أن المنطقة التعليمية في فورت وورث ملغّمة بطلاب غير شرعيين من المكسيك، واقترحت على ترامب التعامل مع هذه الظاهرة غير المقبولة، وفي التغريدة اللاحقة اقترحت طرد هؤلاء الطلاب غير الشرعيين، وترحيلهم من حيث أتوا على جناح السرعة، ولتضفي على رسالتها قدرًا أكبر من المصداقية، ذكرت اسمها بالكامل وأرقام التواصل معها.

مع عملية إنزال مندفع للسبابة والوسطى على زر الإدخال Enter بلوحة مفاتيح جهازها، كانت الكرة الأرضية تقرأ التغريدة! ولك أن تتخيل كمية الحقد والغل التي أعمت ناظريها عن التأكد من أن الرسالة للعام Public وليست خاصة.

اندفاع الست كلارك مشوب بالغضب، وربما تحيا أنت حياة رخية، لم تعرف الغضب أو قلة الحيلة، ولذلك تدعوك السيدة وردة الجزائرية لأن تجرب الغضب ونار "جرّب نار الغيرة، جرّب واوصف لي"؛ فإن وصفت لها، لا بأس أن تشملنا بعطفك وتصف لنا كذلك in Public، لكن كيف نفسر اندفاع الأخ أنتوني وينر؟!

بداية وقبل كل شيء، واعتمادًا على حسي الصحافي فإن وينر لا يمت بصلة للإخوان المسلمين - عشان تبقى عارف يعني - وهو عضو بالكونغرس (سابق) الأميركي، وزوج (سابق أيضًا) لهوما عابدين مستشارة هيلاري كلينتون. أدى به اندفاعه لخسارة مقعده في الكونغرس، كما خسر هوما كذلك.

لم يكن وينر مجرد عضو كونغرس وزوج لمستشارة هيلاري كلينتون فحسب، بل وزوج خلبوص ورجل مزجاتلي، أسكره الحب وأيقظه الزواج (على قولة عمنا أنيس منصور)، ولأن سعادة الرجل المتزوج تعتمد على النساء الأخريات اللاتي لم يتزوجهن (كما يخبرني أنيس منصور برضه)؛ فإن وينر أفندي أراد أن يرسل صوره العارية - يا مولاي كما خلقتني - إلى سيدة أربعينية لعوب طروب فرفوشة مهشتكة، وقد غلبت عليه النشوة واللذة، فأرسل الرسالة على العام "in public"، وأصبح "اللي ما يشتري يتفرج".

إن كان الغضب يقود اندفاعاتك، أو النشوة والمرقعة والمياصة والذي منه؛ فإن الاندفاع يقضي على حياة كثيرين، ويضع حدًا لطموحات آخرين، وينسف علاقات يؤسس لها من سنين. ربما الأمر معك أقل تركيزًا من هذا الجرعة، ربما أمور محرجة لكنها لا تخدش الحياء، ولا تتنافى مع السلوك العام، لكنها محرجة بدرجة أو بأخرى، ثم هي ناجمة عن اندفاعك أو تهورك المؤقت بشكل أو بغيره.

للوقوف على اندفاعاتك الصغيرة والكبيرة، والطريقة المثلى للتعامل معها بشكل منهجي، يأخذك الدكتور ديفيد لويس في رحلة غير مملولة، ويضع يدك على الأمور التي تفعلها ودوافعها، ويفسر لك بواعث الاندفاعات المختلفة في حياتك، وكيف تفرض سيطرتك عليها، ولماذا يتعين عليك كبح جماحها، ثم ترى أن الاندفاعات ليست محض شرور، وأنت تقدم على شراء أشياء بشكل مندفع، وربما تلوم نفسك لاحقًا، وبعد تريث تجد أنك قد اتخذت قرارًا غاية في الأهمية، ولو أنك تريثت لفقدت الفرصة.

يؤكد لويس أن الاندفاعات تسيطر على الغالبية العظمى من تصرفاتنا، وأن أفعالنا غير عقلانية أكثر من كونها عقلانية، ولعلك تتفق معي أن تصرف كلارك ووينر لم يكن عقلانيًا، لا في العنصرية والخيانة الزوجية فقط، إنما في الاندفاع ونشر ما يقتضيه الخاص للدنيا "بحالها ومحتالها"، ولا تتوهم أني أشجعك على الانفلات الأخلاقي في الظلام، بل وبشكل واضح أقول إن الاندفاع - مع اختلاف مسبباته ودرجاته - يدخل حياتنا ويؤثر فيها.

الاندفاع في الإنكليزية Impulse وهي لفظة مشتقة من الكلمة اللاتينية Impellere ومعناها يتحرك، وتشير إلى أن العديد من الانفعالات تغير الحياة رأسًا على عقب، وفي سياق المثالين أعلاه فإن مجلس أمناء مدرسة فورت وورث صوّت بالإجماع على طرد جورجيا كلارك، وطُرِد أنتوني وينر من الكونغرس، وأجبرتهم اندفاعاتهم غير الرشدة على فقد مكانتهم الاجتماعية ووظيفتهم، ودمرت حياتهم الشخصية، والأمثلة تستعصي على الحصر، ويكفي أن تأخذ فاصلًا سريعًا تراجع فيه ماضيك، وسيمدك عقلك الباطن بأدلة أكثر لصوقًا بك وأبلغ في الدلالة والإقناع.

ليس كل اندفاع مهلكاً أو مدمراً، وأنت تدرك ذلك يقينًا، وفي الفصل الأول تقف على هذا المضمون، والكتاب بشكل عام رحلة في عالم النفس والأعصاب، ويشرح دور الاستدلال في صنع قراراتنا، والاستراتيجيات الذهنية المتعارف عليها، ودور الأحاسيس والمشاعر في ضبط أو إثارة الاندفاعات. لا بأس أن تتحلى باندفاعاتٍ محسوبة ومدروسة، قد تكون حازمة وتنقلك نقلة نوعية، لكن لا يجدر بك أن تجنح إلى التهور والطيش، والإنسان الحذر لا يجعل من عنزته حارساً لبستانه.