10 ابريل 2019
وادٍ غير ذي زرع
وادٍ غير ذي زرع
أرض خصراء في مصر (الأناضول)
يتكرّر في مصر خذلان منظومة الدولة للشعب، بشكل غير قابل للاستيعاب، لكنه يأتي في إطار الأمر الذي استطاع الحكّام تحويله واقعاً، هو أن مسلسل الخذلان أصبح مستمرّاً، وعمّ أخيراً قبيلة المزارعين والفلاحين الباذلين دوماً جهدهم في معانقة الهمّ العام وأحزان البلد.
تُعتبر الزراعة عمود اقتصاد مصر القومي، تفوح تهم الفساد من أعلى مستوى في وزارة الزراعة، حتى هيئات السلع التموينية، ليصدق قول عبد الرحمن الأبنودي: "أخشى أن أستيقظ من نومى يوماً فأجد الريف المصري بدون أرض زراعية". بلغ ملف الفساد الزراعي في العام الماضي وحده 155 ألف فدان، بقيمة 60 مليار جنيه، واستخدم فيه جميع سبل التزوير الممكنة بواسطة بعض القيادات، بعلم ثلاثة وزراء تعاقبوا على وزارة الزراعة.
تتوالى اليوم تهم الفساد وكأنّها مهمة تم توزيعها على عجل، الهيئة العامة للسلع التموينية أكبر مشترٍ للقمح في العالم، ولا تكتفي بهذه المنقصة لبلد زراعي، وإنّما تقوم بأكبر من ذلك. فقد اشترت وزارة التموين المصرية محصول القمح المحلي من المزارعين، وأُعلن أنّه خمسة ملايين طن، بينما المحصول الحقيقي أقرب إلى ثلاثة ملايين، وتم تضخيمه للحصول على مزيد من أموال برنامج توريد القمح.
كلّف الفساد في شراء القمح المحلي مصر سبعين مليون دولار على الأقل، والتفاصيل مبذولة على الصحف الورقية والإلكترونية. ولكن، ما يلفت النظر دوماً أنّ الفاسدين يستهدفون المواطن المسكين في لقمة عيشه، وكأنّهم على عهدٍ مع الطغاة لا يخلفونه أبداً. ليس في كل مذكرات الفساد أثر لظلم أو استقواء على صاحب سلطة أو مال أو جاه.
إن كانت الزراعة من أهم الموارد الاقتصادية في مصر، ففي السودان هي الأهمّ على الإطلاق، لعوامل التربة الخصبة والأمطار الغزيرة ومياه النيل العذبة التي يغرق جرّاء فيضانه الناس، ولا يرويهم. وعلى الرغم من هذه العوامل التي يُعدّ فقدانها سبب فقر لبعض البلدان، ويا للمفارقة أنّ البلدين، ومع وجود هذه المقوّمات، من أعلى بلدان العالم الثالث استيراداً لمحصول رئيسي هو القمح.
لا عيب في وادي النيل المعطاء، ولا المزارعين البسطاء الكادحين، لكنه الفساد المستحكم، في جسد السلطة. وكوارث الزراعة جرّاء الفساد تتوالى، ففي الموسم الزراعي لعام 2008-2009، استورد البنك الزراعي في السودان تقاوي (بذور) زهرة عباد الشمس الفاسدة التي أدّت إلى فشل زراعة 850 ألف فدان، ما أدى إلى استيراد البلاد زيوتاً بتكلفة مئتي مليون دولار، فوقع الضرر على المزارعين الذين ما جنوا غير السراب، ودخلوا في مديونية للبنك.
ثم جاءت تقاوي القمح الفاسدة التي أفشلت موسم 2012- 2013، لتزيد من كشفٍ لحجم الفساد في القطاع الزراعي، وتكشف، من ناحية أخرى، السبب في إلحاق الخسائر المادية من صرف المزارعين على تحضير الأرض وشراء المدخلات الزراعية والجهد البدني والعناء النفسي مع مماطلة المسؤولين. وبسبب الفساد، قفزت واردات السودان من محصول القمح من 21.8 مليون دولار عام 1990إلى 800 مليون دولار عام 2012. وأدى تدفق القمح والدقيق المستورد إلى ارتفاع الاستهلاك من 1.5 مليون طن إلى ثلاثة ملايين طن في العام. كما تجاوز حجم الاستيراد السنوي للقمح، بما يعادل مبلغ المليار دولار في ميزانية 2014 في ظل عدم وجود أي أمل لإمكانية تحقيق السودان الاكتفاء الذاتي منه على المدى القريب.
حدث هذا كله في بلد تنبأت لها منظمة الأغذية العالمية، في السبعينيات، بأنّه سيتقدم ثلاث دول هي المصدر الرئيسي للغذاء لبقية العالم: السودان وكندا وأستراليا. ثم حلّت بالسودان كارثة الجفاف والتصحر في 1983، ليتدفق العون الأميركي إغاثة هي ذرة شامية، تُستخدم علفاً للخيول الأميركية، فسمى السودانيون ذاك النوع من الذرة قبل أن يكتشفوه (عيش ريجان).
ليس هناك مشكلة في النظام الزراعي في البلدين، ولكن صاحبه الفشل على مرّ العقود الماضية، عندما تمّ تحويله إلى نظام إقطاعي قائم على حيازة الأرض، يتمثّل في شركات حكومية أو مسؤولين من جهة، والمزارع المغلوب على أمره من جهة أخرى. وتراجع الإنتاج الزراعي في مصر والسودان ليس بسبب آفات الطبيعة وحدها، وإنّما بسبب آفة الفساد. ولم تتمكن حكومتا البلدين من إقناع الفلاحين والمزارعين بأن يكونوا الضحايا كل مرة، كما لم تستطع إقناع المستثمرين بأنّ وادي النيل سيكون سلة غذاء أهله، ناهيك عن أن يطعم العالم.
لم يركن الفلاح، منذ أول قضية فساد، فكلّ ما يتعلّق به واقعي حد القسوة. يحاول اختصار أوجاع كثيرة، مع الحرص على فتح الوعي على حقيقة أنّ الوطن لم يعد كما كان. ليست السوداوية التي حاكتها الأوضاع السياسية وحدها التي تصدّه عن نثر الأسئلة في زوايا أرضٍ يفلحها، وإنّما للقضية أيضاً حزنٌ يندرج تحت إثارة الحماس والهمّة للنهوض بالوطن، ومجابهة الصعاب، نوع من التحدّي.
تُعتبر الزراعة عمود اقتصاد مصر القومي، تفوح تهم الفساد من أعلى مستوى في وزارة الزراعة، حتى هيئات السلع التموينية، ليصدق قول عبد الرحمن الأبنودي: "أخشى أن أستيقظ من نومى يوماً فأجد الريف المصري بدون أرض زراعية". بلغ ملف الفساد الزراعي في العام الماضي وحده 155 ألف فدان، بقيمة 60 مليار جنيه، واستخدم فيه جميع سبل التزوير الممكنة بواسطة بعض القيادات، بعلم ثلاثة وزراء تعاقبوا على وزارة الزراعة.
تتوالى اليوم تهم الفساد وكأنّها مهمة تم توزيعها على عجل، الهيئة العامة للسلع التموينية أكبر مشترٍ للقمح في العالم، ولا تكتفي بهذه المنقصة لبلد زراعي، وإنّما تقوم بأكبر من ذلك. فقد اشترت وزارة التموين المصرية محصول القمح المحلي من المزارعين، وأُعلن أنّه خمسة ملايين طن، بينما المحصول الحقيقي أقرب إلى ثلاثة ملايين، وتم تضخيمه للحصول على مزيد من أموال برنامج توريد القمح.
كلّف الفساد في شراء القمح المحلي مصر سبعين مليون دولار على الأقل، والتفاصيل مبذولة على الصحف الورقية والإلكترونية. ولكن، ما يلفت النظر دوماً أنّ الفاسدين يستهدفون المواطن المسكين في لقمة عيشه، وكأنّهم على عهدٍ مع الطغاة لا يخلفونه أبداً. ليس في كل مذكرات الفساد أثر لظلم أو استقواء على صاحب سلطة أو مال أو جاه.
إن كانت الزراعة من أهم الموارد الاقتصادية في مصر، ففي السودان هي الأهمّ على الإطلاق، لعوامل التربة الخصبة والأمطار الغزيرة ومياه النيل العذبة التي يغرق جرّاء فيضانه الناس، ولا يرويهم. وعلى الرغم من هذه العوامل التي يُعدّ فقدانها سبب فقر لبعض البلدان، ويا للمفارقة أنّ البلدين، ومع وجود هذه المقوّمات، من أعلى بلدان العالم الثالث استيراداً لمحصول رئيسي هو القمح.
لا عيب في وادي النيل المعطاء، ولا المزارعين البسطاء الكادحين، لكنه الفساد المستحكم، في جسد السلطة. وكوارث الزراعة جرّاء الفساد تتوالى، ففي الموسم الزراعي لعام 2008-2009، استورد البنك الزراعي في السودان تقاوي (بذور) زهرة عباد الشمس الفاسدة التي أدّت إلى فشل زراعة 850 ألف فدان، ما أدى إلى استيراد البلاد زيوتاً بتكلفة مئتي مليون دولار، فوقع الضرر على المزارعين الذين ما جنوا غير السراب، ودخلوا في مديونية للبنك.
ثم جاءت تقاوي القمح الفاسدة التي أفشلت موسم 2012- 2013، لتزيد من كشفٍ لحجم الفساد في القطاع الزراعي، وتكشف، من ناحية أخرى، السبب في إلحاق الخسائر المادية من صرف المزارعين على تحضير الأرض وشراء المدخلات الزراعية والجهد البدني والعناء النفسي مع مماطلة المسؤولين. وبسبب الفساد، قفزت واردات السودان من محصول القمح من 21.8 مليون دولار عام 1990إلى 800 مليون دولار عام 2012. وأدى تدفق القمح والدقيق المستورد إلى ارتفاع الاستهلاك من 1.5 مليون طن إلى ثلاثة ملايين طن في العام. كما تجاوز حجم الاستيراد السنوي للقمح، بما يعادل مبلغ المليار دولار في ميزانية 2014 في ظل عدم وجود أي أمل لإمكانية تحقيق السودان الاكتفاء الذاتي منه على المدى القريب.
حدث هذا كله في بلد تنبأت لها منظمة الأغذية العالمية، في السبعينيات، بأنّه سيتقدم ثلاث دول هي المصدر الرئيسي للغذاء لبقية العالم: السودان وكندا وأستراليا. ثم حلّت بالسودان كارثة الجفاف والتصحر في 1983، ليتدفق العون الأميركي إغاثة هي ذرة شامية، تُستخدم علفاً للخيول الأميركية، فسمى السودانيون ذاك النوع من الذرة قبل أن يكتشفوه (عيش ريجان).
ليس هناك مشكلة في النظام الزراعي في البلدين، ولكن صاحبه الفشل على مرّ العقود الماضية، عندما تمّ تحويله إلى نظام إقطاعي قائم على حيازة الأرض، يتمثّل في شركات حكومية أو مسؤولين من جهة، والمزارع المغلوب على أمره من جهة أخرى. وتراجع الإنتاج الزراعي في مصر والسودان ليس بسبب آفات الطبيعة وحدها، وإنّما بسبب آفة الفساد. ولم تتمكن حكومتا البلدين من إقناع الفلاحين والمزارعين بأن يكونوا الضحايا كل مرة، كما لم تستطع إقناع المستثمرين بأنّ وادي النيل سيكون سلة غذاء أهله، ناهيك عن أن يطعم العالم.
لم يركن الفلاح، منذ أول قضية فساد، فكلّ ما يتعلّق به واقعي حد القسوة. يحاول اختصار أوجاع كثيرة، مع الحرص على فتح الوعي على حقيقة أنّ الوطن لم يعد كما كان. ليست السوداوية التي حاكتها الأوضاع السياسية وحدها التي تصدّه عن نثر الأسئلة في زوايا أرضٍ يفلحها، وإنّما للقضية أيضاً حزنٌ يندرج تحت إثارة الحماس والهمّة للنهوض بالوطن، ومجابهة الصعاب، نوع من التحدّي.