هُم ونحن

هُم ونحن

19 سبتمبر 2020
شاكر حسن آل سعيد/ العراق
+ الخط -

كانوا يسيرون خلفنا ويدفعوننا نحو النهر وبنادقهم تلكز خاصراتنا، حتّى غطسنا فيه ونحن نرفع بنادقنا فوق رؤوسنا لنُنجّيها من التلف، واجتزنا إلى الضِّفة الأخرى. كُنّا نعلم أنَّ بنادقنا أغلى من أرواحنا عند الدولة.

تركونا ننتظر هناك، "لا أحد يخبرك ما الذي ينتظرك، هذه هي الحرب"، قالها الجنديُّ من خلفي كأنه يُعرّفها لنا. تركونا من دون توجيه، أو حتى إتاحة خيار إطلاق النار، فقد أمَرَنا ضابط الفصيل أن نمكث هناك أو ربما تبرّع بنا.

لحظات حتى وجدت ذلك الأنبوب الذي يقتل الشجعان والمترددين معاً، قد صُوب نحوي، طلبوا مني الانحناء كالعبد، لم يكن يزعجني ذلك، فلا أذكر أنني كنت حرّاً في يوم من الأيام.

انحنيتُ حتى قيّدوني ثم ساروا بنا إلى هناك، وأقصد عندهم، وحينها عرفت أنَّ العالم مكانان فقط (هنا وهناك) والبشر صنفان (هُم ونحن).

تركونا ثلاثة أيام من دون غذاء، لم يتعمدوا ذلك، لأنهم لم يأكلوا أيضاً، حتى وصلت الإمدادات بعدها. كان قِدْراً من "الأشكنة"، يحمله شابان يافعان انزاحت خوذة أحدهما حتى غطّت وجنتيه (يشبهني هذا الجندي فخوذتي لم تستقر على رأسي لحظة). والأشكنة هذه لم تكن أشكنة فعلية، فقد تعذّر عليهم توفير أغلب مكوّناتها، واقتصرت على قَلْيِ مفرومِ البصل في الزيت وإضافة مُرَكّز اللبن مع الماء، وكلما شعر الطاهي بأنّ الأشكنة قاربت على النفاد، يزيدها ماءً وملحاً، وبكسر الخبز اليابس نغطّسه ونأكل. لكن قذائف عدوهم (أي زملائنا نحن) منعتنا من إكمال وجبتنا. حملنا القِدْر وهربنا، وبينما كانت الأشكنة تتموّج وترمي بنفسها إلى الأرض، قلتُ في سِرّي: "لا مشكلة سنزيد من الملح والماء". 

مات الرجل خارج سلطة اللغة وهذا كل ما كان يتمناه

ولو فكّرتَ في الفوارق التي تميّزُنا عنهم، أننا كنّا نأكل "المحروك إصبعه"، وربما هو لا يختلف كثيراً في المكوّنات عن الأشكنة سوى في أنه من دون لبن مع اختلاف في آلية استخدام الخبز، حيث نمزج قطع الخبز مع مفروم البصل والزيت داخل القدر.

أكثم كان تابعاً لنا، أيّ ينتمي إلى "نحن"، لكنه لم يكن كذلك فعلاً، ولم يبدُ عليه أنه تابع لـ "هُم" أيضاً مثل جاسوس أو خائن، أُسِرَ معي وأكلنا الأشكنة كما أكلنا "المحروك إصبعه" من قبل، وحينما سألتُه عن الفرق، قال إنّ طعام الحرب له مذاق واحد في كل مكان.

لاحظتُ عليه مشاعر غريبة وغير مفهومة، كان يبكي في الحالتَين عندما نقتل منهم وعندما راحوا يقتلون منّا، ولن تستطيع أن ترمي عليه كلمة جبان، لأنه طالما تقّدم من دون سلاح أمام هجمات العدو، ولحسن حظّه فقط لم يُقتل في كل تلك المرّات.

والحظ نفسه هو ما جعلنا، أنا وهو، ضمن مجموعة صغيرة من الناجين الذين أُفرج عنهم في تبادل أسرى.

بعد الحرب التقيتُ بأكثم عدّة مرّات، صار يتردّد عليّ كثيراً، نجلس في المقهى ونتحدث عن الضمائر، ونستعيد أيام دراستنا في الجامعة للغة العربية، قبل تجنيدنا وسحبنا إلى الجبهة. وكان غالباً ما يأخذ هو الحديث إلى أهمية اللغة ومدى قدرتها على توجيه البشر. كان يُردّد دائماً أنّ الضمائر تكوّنتْ لدوافع سياسية قبل أن تكون ضرورة إنسانية للتواصل، فيرجِّح أنَّ قائد قبيلة ما من قبائل الإنسان القديم، قد أشهر هذه الكلمة أوّل مرّة يوم كان يعتلي صخرة ويحرِّض بني قومه للهجوم على "الأعداء" في القبيلة المُجاورة. ظهرت "هُم" أول مرّة قبل أن تنشب أقدم حروب البشرية على الإطلاق، كما أن كلمة "نحن" المضادة لها خرجت من فم نفس الرجل على الأرجح.

كلامه هذا فسّر لي شعوري بأنه لم يكن "معنا" في الحرب، ولم يظهر كضد لنا أيضاً، كانت مشكلته لغوية مع الحرب، وعلى الرغم من أنه تقبّل أوامر الضبّاط المُهينة والمُذلّة للكرامة، إلا أنه رفض أنَّ ينصاع لضمير الدولة اللغوي.

انتهت حياة أكثم بقتله في وسط شارع حيفا، يوم تشابكت مجموعات مسلّحة تعود لنفس النزاع اللغوي التاريخي "هُم ونحن". قُتل وسط الشارع بينما كان المسلّحون من كلا الطرفين يختبئون خلف السواتر ونوافذ الأبنية. سقط جثةً هامدة بينهم وكأنه بموته هذا اقترح لنا ضميراً جديداً للغة وللإنسانية، ضميراً يعبّر عنّا، عن الذين لا ينتمون إلى "هُم" و"نحن". 

مات الرجل خارج سلطة اللغة وهذا كل ما كان يتمناه.


* كاتب من العراق

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون