هيلاري – ترامب... عودة المؤسسة الشرقية

هيلاري – ترامب... عودة المؤسسة الشرقية

20 يونيو 2016

هيلاري كلينتون ودونالد ترامب .. قادمان من نيويورك

+ الخط -
بعد مرور ثلاثين عاماً على إطلاق "ناشيونال إنتريست" (مؤسسة المصلحة القومية) في الولايات المتحدة، يجلس رئيس مجلس إدارة المؤسسة، يعقوب هاليبرون، مع وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر، في نيويورك، في مستهل شهر يوليو/ تموز من العام الماضي، حيث قال كيسنجر لهاليبرون: أعتقد أنني لم أغيّر رؤيتي فيما يتعلق بهذا الشأن منذ السبعينيات. فقد كانت لديّ، دوماً، رؤية مُتبحّرة فيما يتعلق بالمصلحة الوطنية. وكثير من المناقشات التي دارت حول الواقعية، باعتبارها فعلاً مضادّا للمثالية، كانت مصطنعة؛ فالطريقة التقليدية التي تمت إدارة المناقشات من خلالها ساهمت في إيجاد مجموعة من العقول، تؤمن بالقوة عنصراً فعّالاً في السياسة الدولية، في مقابل العقل المثالي الذي يؤمن أن قيم المجتمع تعتبر أمراً حاسما. كما أن كينان أو آتشيسون أو أي ممن ذكرتهم لم يكن لديهم رؤية مُبسطة للأمور.
ويضيف كيسنجر: في رؤية العقل الواقعي، إن أردتَ أن تحلل السياسة الخارجية، عليك أولاً أن تبدأ بتقييم كل العناصر المرتبطة بالموقف، وسيتم وضع القيم عنصراً أساسياً؛ فالنقاش الحقيقي تخطى الأولوية النسبية والتوازن وفي 1964، تنبأت قائلاً إن انتصار غولد ووتر سيكون ظاهرة جديدة في السياسات الأميركية، فهو انتصار للأيديولوجيا الحزبية. لكن، لا يمكن لأحد أن يتنبأ كيف ستكون النهاية، فليس هناك مقدمات لها، أو بالأحرى سوابق تاريخية يمكن القياس عليها. وأكد كيسنجر أن الأمر في أثناء التجمع الحزبي بدأ حقيقيا بالنسبة لشخص مثله، تعود على سياسات المؤسسة الشرقية، وقال فيما يخص غولد ووتر، إنه تعرّف عليه فيما بعد، واحترمه واعتبره رجلاً لديه إيمان ونزاهة.
باري غولد ووتر هو أكثر المرشحين المحافظين في القرن الماضي تطرفاً في آرائه ومواقفه ضد الشيوعية، وضد الملونين، خصوصاً السود، وضد النظرة الاقتصادية ذات البعد الاجتماعي. ويعتبر، من دون تحفظ، أحد آباء تيار المحافظين الجدد الذين ظهروا، بعد ذلك، في قيادة الولايات المتحدة الأميركية، من ريغان وآل بوش، حتى تلميذه النجيب مرشح الحزب الجمهوري الحالي دونالد ترمب. وكان قد ترشح ضد ليندون جونسون، النائب السابق للرئيس جون كيندي، عام 1964، بعد أن أكمل المدة المتبقية للرئيس كيندي، بعد اغتياله في تكساس عام 1962.

تسيطر على السياسة الأميركية ثلاث مؤسسات عملاقة، هي تكتلات الشركات الكبرى ذات المصالح المتشابهة، ومستشاروها من رجال القانون ومراكز البحث والدراسات والتنظير والجامعات التي تنجز الدراسات والبحوث، هم من رجال السياسة على مستوى الولاية أو مجموعة الولايات من المرشحين لمجلس الولاية وحاكمها، أو من يُدفع به إلى المستوى الاتحادي على مستوى الكونغرس، أو البيت الأبيض، ليخدم المصالح العليا "للمؤسسة" والدولة من وجهة نظر جهاز التنظير الذي أعدّ الدراسات والبحوث، وهيأ الأطقم البشرية، لوضعها موضع التنفيذ تحت مظلة الحصان الرابح الذي تم اختياره لحكم الولاية أو البلاد.
المؤسسة الشرقية هي تجمع البنوك العملاقة وشركات التمويل الكبرى وشركات التأمين العملاقة المتمددة في مساحات ستة من ولايات الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأميركية، (تسندها مئات من شبكات تلفزة ومحطات الإذاعة وشركات الإنتاج الإعلامي)، ويعتمد اقتصادها على تهيئة الملاذ الآمن لتدوير رؤوس الأموال الخارجية (كفوائض أموال النفط مثلاً، إن بقي فيها فائض) أو بتخريب الاستقرار في الملاذات الآمنة الأخرى في العالم، بحيث تصبح بوسطن ونيويورك، أو مدن الساحل الشرقي للولايات المتحدة، الملاذ الوحيد. لا يهم من أين أتى الرئيس، طالما لديه الكاريزما القادرة على إقناع الناخب به، جمهورياً كان أم ديمقراطياً. قدمت هذه المؤسسة في الماضي جون كيندي، كأكثر رؤساء الولايات المتحدة ليبرالية في القرن الماضي، تساعده من أطقم جهاز التنظير ثلة من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بقيادة وزير دفاعه العتيد، روبرت ماكنمارا، الذي أصبح مديراً لصندوق النقد الدولي لاحقاً. وقدمت لاحقاً شيخ المحافظين، الرئيس ريتشارد نيكسون، نائب الرئيس إيزنهاور وشريكه في بناء المجمع الصناعي العسكري الذي أصبح نواة للمؤسسة الغربية في الساحل الغربي ومجموعة كارتيلاتها في ولايتي واشنطن وكاليفورنيا، وفي منطقة وادي السيليكون، حيث صناعة الكمبيوتر والبرمجيات والصناعات الدفاعية المتطورة وصناعة الطيران، العسكري والمدني. واعتمد نيكسون على أطقم جامعة هارفارد، بقيادة كيسنجر، الذين أمدوه بالدراسات والبحوث، وأصبحوا قادة جهازه التنفيذي في البيت الأبيض.
المفارقة العجيبة في كواليس السياسة الأميركية أن الديمقراطية هيلاري كلينتون، والجمهوري اليميني المتشدّد، دونالد ترامب، قدما، هذه المرّة من المؤسسة الشرقية، ومن قلبها في نيويورك، فمعظم إمبراطورية ترامب وإدارتها وعقاراتها وناطحات سحابها، إن لم يكن كلها، تتمركز في ولاية نيويورك. وهيلاري هي السيناتورة السابقة لولاية نيويورك، وقد وصلت إلى هذا المنصب بدعم مالي كبير من ترامب نفسه عندما كان ديمقراطياً وذا علاقةٍ وثيقةٍ بزوجها الرئيس كلينتون منذ عام 1992، ومن المعجبين به جداً. وهيلاري مرشحة الديمقراطيين اليوم بدأت حياتها السياسية عام 1964 بالتطوّع في حملة المرشح الجمهوري اليميني المتشدّد، باري غولد ووتر، مؤسس الخط اليميني المتشدّد في السياسة الأميركية، وأستاذ ترامب وقدوته الآن الذي كاد أن يخرج مرتكزات الدولة مما خطّه لها الآباء المؤسسون.
فاز ترامب، الأمر الذي لا يرجحه كاتب هذه السطور، أو فازت هيلاري كلينتون، وهو المحتمل، فإن هندسة السياسة الأميركية ستكون ابنة للمؤسسة الشرقية، إي إطلاق عقال رأس المال ليخدم المصلحة الوطنية الأميركية، فلم يعد النفط (المؤسسة الجنوبية) مسيطراً على مجريات السياسة، ولم يعد السلاح والحروب والمواجهات الكبيرة محتملةً، ودخل العالم منذ عشر سنوات في الجيل الخامس للحروب (الحروب اللاتماسية أو الحرب المتوازية)، ولم يعد (للمؤسسة الغربية) الوهج نفسه ولا القدرة نفسها لخدمة المصلحة القومية عن طريق الحروب الكبيرة.
ستتجه السياسة في العقد المقبل لخططٍ لا تسمح لرؤوس الأموال العربية وغيرها بالخروج من حواضنها الآمنة في الولايات المتحدة الأميركية، وسيتم استثمارها وتدويرها بواسطة المؤسسات المالية للمؤسسة الشرقية الحاكمة في الولايات المتحدة، محققة نبوءة كيسنجر "يصبح الدائنون رهائن بما أودعوا، والمدينون رهائن بما استدانوا". ولا أرى، بكل أسف، في مراكز البحوث والسياسات العربية عملا جاداً ووقائياً، نستعد به لمرحلة العقد المقبل من السنين الذي بانت الآن قسماته ومعالمه.

دلالات

67EE2B24-6376-4DE6-AB80-43EB208AA9CA
مضوي الترابي

كاتب وباحث سوداني في الشؤون الاستراتيجية مقيم في لندن