09 ديسمبر 2024
هيكل وغالي والبرادعي
إثر وفاة محمد حسنين هيكل وبطرس غالي، بدا واضحاً أن ثمة اختلافاً كبيراً حول تقييم الرجلين، وما تركه كل منهما من أثر وتأثير. ولا يستقيم الحكم على شخصياتٍ كهذه، بمعيار الكفاءة المهنية فقط. فمن يمتهن الصحافة أو الكتابة أو الدبلوماسية والعمل العام، وصولاً إلى مراتب عليا، بل عالمية، لا يكون الحكم عليه بجدارته أو مهارته في مباشرة عمله الأصلي، إذ يكون قد تجاوز النطاق المباشر لذلك العمل، وربما ارتقى أو طوّر نفسه ليمارس مستوى أعلى في المجال نفسه. وهذا ما فعله هيكل على وجه الخصوص، فقد استغل سنوات الستينيات التي قضاها في مطبخ السياسة المصرية والعربية، ليحصل على قدر من الوثائق، ويبني شبكة من العلاقات، كفلت له لاحقاً الانتقال من دائرة المخبر الصحافي إلى مساحة الكاتب الباحث (الاستقصائي)، ثم لاحقاً إلى مستوى المراقب والمحلل الذي يستخدم خبراته المتراكمة في تفسير الأحداث، واستقراء اتجاهاتها المستقبلية. كان مسار غالي أقل تنوعاً، فقد تطور داخل مجاله بشكل تدرجي منطقي، حتى وصل إلى أعلى منصب دبلوماسي في العالم. لذا، اكتسب قيمته ومكانته من انفراده بتولي منصب أمين عام الأمم المتحدة، وتاريخ طويل في العمل الدبلوماسي جعله مشاركاً وشاهداً على أحداثٍ جسام. وليس لإنجازاتٍ كبيرةٍ حققها، أو نقلات نوعية في مسار حياته.
تستند معظم الانتقادات الموجهة لهيكل إلى انحيازه السياسي الفج لعبد الناصر في أثناء عهده وبعده. إضافة إلى شكوكٍ، لها ما يبرّرها، في صدقية ما كان يكتبه من قصص ووقائع ينسبها إلى زعماء وساسةٍ، مات معظمهم. وكثيراً ما حدث خلط بين رفض دور المنظر والمبرر الذي لعبه هيكل مستشاراً لعبد الناصر، والتحفظ عن بعض أدائه المهني، في كتاباته وسردياته. ويبدو الأمر أوضح بالنسبة لغالي، فالهجوم الذي شنه بعضهم عليه ينبع من نوازع محض دينية. تتعلق، مثلاً، بموقفه من المجازر التي ارتكبها الصرب تجاه مسلمي البوسنة مطلع التسعينيات، في أثناء توليه منصب أمين عام الأمم المتحدة. يتجاوز الخطأ الذي وقع فيه منتقدو هيكل وغالي النقد المباشر لأداء الرجلين، كل في مجاله. فلكل منهما بالتأكيد أخطاؤه، بل ربما خطاياه. لكن، ليس من الإنصاف خلط الأوراق بمحاسبة الكاتب بمعايير السياسي، أو مطالبة موظف دولي يعمل سكرتيراً عن حكومات العالم، أن يبادر إلى تحركٍ أو إعلان موقفٍ، يخرج عن نطاق صلاحياته.
إذا كانت مشكلة هيكل أنه طرح نفسه عالماً ببواطن أمور لم يلم بها، وأسرار زمن غير زمانه، فإن غالي لم يدّع يوماً أنه قام بعمل خارق في أيٍّ من مناصبه. ولكن، أحياناً يكون التعويل على شخص، وتعليق كل الآمال عليه، أمراً مبالغاً فيه، ويتجاوز قدراته الذاتية، وليست فقط الوظيفية أو المهنية.
نموذج آخر يقدمه محمد البرادعي، فقد تعرّض لحملةٍ ضاريةٍ، كونه خذل الثورة المصرية، ولم يكن على مستوى توقعات المصريين منه. لم يفكّر أحد في أن الرجل لم يطرح نفسه يوماً زعيماً سياسياً أو قائداً ثورياً. ولم يكن في ذهنه، وهو يعود إلى مصر عام 2010، أن بلده في أمسّ الحاجة إلى منقذٍ، ليس مطلوباً منه سوى أن يمد يده ويرفع صوته، وسيتكفل المصريون بالباقي، ويتوجونه عليهم. لم ير أحدٌ، وقتئذٍ، أن البرادعي لا يصلح زعيماً، ولا يريد أن يكون.
أمر صادم ومخزٍ أن ترتكب شخصيات عامة أخطاء فادحة، أو أن يكذب سياسي على الشعب، أو يُدلس كاتبٌ على قرائه. ولا يقل عنه خزياً ومأساوية أن تضع الشعوب رهاناتها على من لا يستطيع، وتعلّق مستقبلها بمن لا يستحق.
تستند معظم الانتقادات الموجهة لهيكل إلى انحيازه السياسي الفج لعبد الناصر في أثناء عهده وبعده. إضافة إلى شكوكٍ، لها ما يبرّرها، في صدقية ما كان يكتبه من قصص ووقائع ينسبها إلى زعماء وساسةٍ، مات معظمهم. وكثيراً ما حدث خلط بين رفض دور المنظر والمبرر الذي لعبه هيكل مستشاراً لعبد الناصر، والتحفظ عن بعض أدائه المهني، في كتاباته وسردياته. ويبدو الأمر أوضح بالنسبة لغالي، فالهجوم الذي شنه بعضهم عليه ينبع من نوازع محض دينية. تتعلق، مثلاً، بموقفه من المجازر التي ارتكبها الصرب تجاه مسلمي البوسنة مطلع التسعينيات، في أثناء توليه منصب أمين عام الأمم المتحدة. يتجاوز الخطأ الذي وقع فيه منتقدو هيكل وغالي النقد المباشر لأداء الرجلين، كل في مجاله. فلكل منهما بالتأكيد أخطاؤه، بل ربما خطاياه. لكن، ليس من الإنصاف خلط الأوراق بمحاسبة الكاتب بمعايير السياسي، أو مطالبة موظف دولي يعمل سكرتيراً عن حكومات العالم، أن يبادر إلى تحركٍ أو إعلان موقفٍ، يخرج عن نطاق صلاحياته.
إذا كانت مشكلة هيكل أنه طرح نفسه عالماً ببواطن أمور لم يلم بها، وأسرار زمن غير زمانه، فإن غالي لم يدّع يوماً أنه قام بعمل خارق في أيٍّ من مناصبه. ولكن، أحياناً يكون التعويل على شخص، وتعليق كل الآمال عليه، أمراً مبالغاً فيه، ويتجاوز قدراته الذاتية، وليست فقط الوظيفية أو المهنية.
نموذج آخر يقدمه محمد البرادعي، فقد تعرّض لحملةٍ ضاريةٍ، كونه خذل الثورة المصرية، ولم يكن على مستوى توقعات المصريين منه. لم يفكّر أحد في أن الرجل لم يطرح نفسه يوماً زعيماً سياسياً أو قائداً ثورياً. ولم يكن في ذهنه، وهو يعود إلى مصر عام 2010، أن بلده في أمسّ الحاجة إلى منقذٍ، ليس مطلوباً منه سوى أن يمد يده ويرفع صوته، وسيتكفل المصريون بالباقي، ويتوجونه عليهم. لم ير أحدٌ، وقتئذٍ، أن البرادعي لا يصلح زعيماً، ولا يريد أن يكون.
أمر صادم ومخزٍ أن ترتكب شخصيات عامة أخطاء فادحة، أو أن يكذب سياسي على الشعب، أو يُدلس كاتبٌ على قرائه. ولا يقل عنه خزياً ومأساوية أن تضع الشعوب رهاناتها على من لا يستطيع، وتعلّق مستقبلها بمن لا يستحق.