هيكلة المؤسسة العسكرية في فترة التحول الديمقراطي

هيكلة المؤسسة العسكرية في فترة التحول الديمقراطي

20 يناير 2020
+ الخط -
إن دول العالم العربي التي يشكل فيها المسلمون أغلبية تعاقبت على حكمها أنظمة ديكتاتورية عسكرية حكمتها باسم توفير الأمن والاستقرار وحماية المواطنين..

هذه الأنظمة العسكرية المعاصرة لم تأتِ من الفضاء، بل أتت نتيجة لفشل الفكر السياسي للأحزاب السياسية في الدول ذات الطبيعة اليمينية (الدينية) أو اليسارية؛ هذا الفكر السياسي فشل في صياغة نظام حكم وسلطة مدني ديمقراطي رشيد يفصل السلطات عن بعضها البعض (المعرفية - التشريعية - التنفيذية - القضائية) ويحدد طبيعة موضع المؤسسة العسكرية في خريطة الواقع السياسي ودورها وصلاحياتها ومهامها الداخلية والخارجية حتى تكون مساهمة في حماية النظام الديمقراطي الرشيد وليس حماية الأفراد والكيانات.

إن المؤسسة العسكرية في هذه الدول تنقض على الحكم والسلطة بمجرد فشل النخبة السياسية من المدنيين ومثقفيها ومفكريها في تأسيس نظام حكم مدني ديمقراطي رشيد مبني على التعددية السياسية في المشاركة وحرية التعبير والرأي، والمساواة في الحقوق دون التمييز على أساس العقيدة والعرق واللون.. إلخ.


إذن المؤسسة العسكرية تقوم بالاستيلاء على الحكم بمجرد فشل النخبة السياسية والفكرية في تلبية المتطلبات التي سلف ذكرها. فتقوم بهذا الاستيلاء على الحكم باسم توفير الأمن والاستقرار العام وحماية الوطن من الفوضى والتفرق، وذلك لأن الجماهير في المجتمعات الإنسانية تتفاعل بالعاطفة دون تفكير وتحليل عندما يتعرض أمنها الجماعي ورزقها للتهديد، فتمنح شرعية للحكم العسكري، وذلك مقابل توفير الأمن والاستقرار ولقمة العيش.

فهذه المؤسسة العسكرية لديها مصالح داخلية وخارجية (اقتصادية - مالية - عسكرية) ممثلة في عقود واتفاقيات إقليمية ومحلية مع دول وكيانات تجارية سيتم فقدانها في حال لم يستولوا على السلطة.

فهم يقومون بالاستيلاء علي الحكم إما بانقلاب عسكري أو استجابة لانتفاضة شعبية، وذلك بسبب فشل النخبة السياسية والفكرية (أحزاب سياسية - مفكرين - مثقفين) في التوافق على تأسيس وتطوير نظام حكم وسلطة رشيد، مبني على التعددية في مشاركة الجميع وعلى أساس المساواة في المواطنة في (الحقوق والحريات)، ويحمي الحريات العامة ويحافظ على ثقافة وعادات وتقاليد الشعب الأخلاقية والإنسانية؛ فهذه النخبة السياسية تكون دائماً متصارعة مع بعضها البعض غير متفقة حول المبادئ والقيم المدنية الأساسية التي تشكل بنية وأساس الدولة، ما يجعل الفرصة متاحة للانقلابات العسكرية بواسطة المؤسسة العسكرية أو الفوضى الأمنية الشاملة التي تحول الدولة إلى خراب مثلما يحدث حالياً في ليبيا.

حاليا، هناك الكثير من دول العالم العربي عاشت حالة الانقلابات التي قادتها جهات داخل المؤسسات العسكرية ضد مدنيين كانوا يحكمون، وذلك بسبب ضعف هؤلاء المدنيين في تأسيس نظام حكم وسلطة رشيد، يوضحون فيه موقع المؤسسة العسكرية في الخارطة السياسية، بمعنى تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات وتنظيمها بالقوانين.

ودعونا نورد أمثلة على فشل النخبة السياسية الفكرية ثم انقلاب المؤسسة العسكرية على الحكم ثم إعادة إنتاج نظام ديكتاتوري (عسكري الطابع)..

المثال الأول: مصر

حدثت ثورة شعبية في (25 يناير/ كانون الثاني 2011) على نظام حسني مبارك الديكتاتوري الأمني، الذي حكم 30 عاماً، أنتجت سقوط النظام، فسلم السلطة إلى المجلس العسكري في (11 فبراير/ شباط 2011) الذي عطل الدستور وحل البرلمان، ثم نظم المجلس العسكري بواسطة المشير حسين طنطاوي قائد الجيش والحاكم الفعلي انتخابات ديمقراطية فاز فيها الإخوان المسلمون (حزب الحرية والعدالة)، فانتخب الشعب الرئيس الراحل محمد مرسي رئيساً له عبر صندوق الانتخابات، وذلك لفترة 4 سنوات مستحقة، بنسبة 51% من جملة الأصوات، فقام بتعيين عبد الفتاح السيسي قائداً للجيش، والذي كان العقل المدبر لما سيحصل بعد ذلك، فخطط لانقلاب عسكري على رئيس منتخب ديمقراطياً، وشهد لتلك الانتخابات مركز كارتر الأميركي لمراقبة الانتخابات بأن الانتخابات كانت نزيهة وديمقراطية.


ولكن السبب الرئيسي الذي أدى إلى تدخل المؤسسة العسكرية وتخطيطها للانقلاب هو فشل النخبة السياسية الحاكمة ومفكريها - الإخوان المسليمن -، في تقدير الواقع السياسي آنذاك، والذي كان فخاً واضحاً لهم بتقديمهم للحكم من أجل التخلص منهم بعد تشويه سمعتهم، وفشلهم في تحديد وتحييد المؤسسة العسكرية وإلحاقها لتكون خاضعة للنظام المدني لمجلس الوزراء وذلك بإعادة تأسيسها وهيكلتها.

هذا الفشل قاد إلى قيام انقلاب عسكري أنتج حكما ديكتاتوريا عسكريا مبنيا على العقيدة الأمنية - أي دولة أمنية بامتياز - ما زالت تحكم حتى الآن، ما أدى إلى قمع المعارضين وسجنهم وانتهاك الحريات وسلب الحقوق وخرق الدستور وسجن الرئيس المنتخب ديمقراطياً محمد مرسي، إلى أن مات في السجن.

والشيء الغريب أن حسني مبارك الرئيس الديكتاتوري السابق دخل السجن ثم أخرجوه بريئاً، بينما الرئيس مرسي المنتخب ديمقراطياً بواسطة الشعب، أدخل السجن إلى أن مات فيه.

هذا مثال صغير على أن فشل النخبة السياسية المدنية (أحزاب سياسية - مثقفين - مفكري المجتمع - الحكماء) في تبني رؤية تعددية تشرك أكبر قدر من الأحزاب السياسية الفاعلة والمفكرين (يسارية - يمينية) في تأسيس نظام حكم وسلطة انتقالي رشيد من ناحية، ومن ناحية أخرى فشلهم في تحديد التهديدات المرحلية التي تحيط بهم من الأطراف التي تحاول أن تعيد وتسترجع النظام الديكتاتوري القديم بطرق جديدة، وخاصة المؤسسة العسكرية.

فهل يحدث في السودان ما حدث في مصر؟.. مجرد تساؤل.

المثال الثاني: السودان

حدثت انتفاضة شعبية ضد نظام الإنقاذ الإسلامي، قامت على أثرها المؤسسة العسكرية بعزل الرئيس والانقلاب على الحكم استجابة للرغبة الشعبية كما يقولون، ثم دخلت القوى الثورية (المدنية - العسكرية) في مفاوضات لتشكيل حكومة انتقالية تؤسس لنظام حكم انتقالي مع إقصائهم لبعض الأحزب الإسلامية والتيارات المجتمعية، فشكلوا حكومة محاصصات سياسية بالشراكة بين العسكريين والمدنيين (حكومة مدنية عسكرية)، وليست حكومة مدنية ديمقراطية كما يصيح "الأغبياء" في الطرقات.

فالحكومة المدنية الديمقراطية تقوم على التعددية (السياسية والفكرية والملية) وتقوم على ضمان حرية الرأي الآخر والتعبير وعدم إقصاء الآخرين عن المشاركة، وعدم تصنيف الآخرين على أنهم خائنون بمجرد أنهم أعطوا رأياً فكرياً سياسياً مختلفاً، وبناء دولة مؤسسات وليس دولة أحزاب سياسية.

فدخلت الدولة في حالة استقطاب حادة جداً واحتقان يتم تصنيف المواطنين فيها إما على أساس الانتماء إلى القوى اليسارية العلمانية أو اليمينية الإسلامية.

هنا قام العسكريون بالاحتفاظ بسلطة إدارة المؤسسة العسكرية بكل مكوناتها (جيش - شرطة - مخابرات) وكل ما يتعلق بأنشطتها وبرامجها وماليتها واتفاقيتها المحلية والإقليمية والدولية مع الدول الخارجية؛ وتم إبعاد المدنيين عن التدخل في تأسيس أو هيكلة المؤسسة العسكرية، سواء على مستوى العقيدة العسكرية أو الأنظمة الداخلية والقوانين المنظمة لها.


وهذا يشكل خطراً كبيراً جداً على نجاح أي تحول ديمقراطي في السودان إلى نظام حكم رشيد، لأنه، أولا المؤسسة العسكرية يمكنها أن تنقض على الحكم والسلطة في أي وقت، فتنتج نظاما ديكتاتوريا عسكريا يعيد البلاد إلى المربع الأول.

ثانياً، إنها تملك السلطة العملية في الميدان (سلطة الإكراه)، برفض أي مقترحات يقدمها المدنيون لإعادة تأسيس المؤسسة العسكرية على أساس ديمقراطي رشيد يقوم بدمج سلطتها في السلطة التنفيذية لمجلس الوزراء.

فهل تنقض المؤسسة العسكرية في السودان على الحكم، مبررة ذلك بفشل النخبة المدنية الحاكمة في تأسيس مؤسسات وسياسات تحدث تحولا ديمقراطيا حقيقيا؟ أم هل ينقض العسكريون عليه مبررين ذلك بحالة الاستقطاب الحالية التي يعيشها السودان بين اليسار السياسي واليمين السياسي، والتي قد تدخل السودان إلى حالة الفوضي الشاملة؟.. مجرد تساؤل.

نختم بالقول إنه لنجاح أي تحول ديمقراطي في نظام الحكم والسلطة، يجب أن يعاد تأسيس المؤسسة العسكرية على ثلاثة مبادئ تأسيسية:
أولا: الاستقلالية من أي تبعية لأي دولة خارجية أو رجال أعمال محليين على مستوى التمويل أو التدريب.

ثانياً: الولاء للقيم الدستورية والقوانين الإنسانية العالمية بحماية المواطن والدستور والقضاء والنيابات العامة والانتخابات والمؤسسات السيادية والحدود.

ثالثاً: التكوين الفكري، أي الديمقراطية الرشيدة كأساس لعقيدة العسكريين بمحاربة أي انقلابات عسكرية مستقبلية على الحكم والسلطة وحماية الحقوق والحريات العامة والتعددية السياسية والفكرية والمؤسساتية في المجتمع.

وذلك يكون بـ:
أولاً: دمج أي قوات غير رسمية في بنية المؤسسة العسكرية (لتصبح قوات رسمية موحدة بدلاً من عملها خارج المؤسسة العسكرية سواء في التبعية أو في مصدر التمويل).

ثانياً: أن يتم نقل جميع مباني المؤسسة العسكرية ومخازنها ومعداتها خارج المدن.

ثالثاً: أن يتم تحويل جميع المؤسسات التجارية والخدمية التي يملكها العسكريون إلى وزارة التجارة والمالية والاقتصاد، أي لتكون ملكية للدولة حتى لا تكون هنالك مؤسسات تجارية موازية وميزانية مالية موازية للميزانية القومية للحكومة، فتكون دولة داخل دولة مثلما هو الحال في مصر.

رابعاً: أن تتم إعادة النظر في العلاقات الخارجية للمؤسسة العسكرية مع الدول الإقليمية والدولية، حتى لا تتبع لأحد المحاور بعينه، ما يؤدي لفقدانها استقلالها وسيادتها المستمدة من الدستور والشعب وليس من دول المحاور.
4AECF04C-6BFA-48D8-BBEB-82B2891EB5FD
محمد عبد الله بشير

استشاري وإداري وكاتب وباحث ومحاضر من السودان.