هوم ميد: سلسلة من مرايا لا تعكس شيئاً

هوم ميد: سلسلة من مرايا لا تعكس شيئاً

14 يوليو 2020
استعان بعض المخرجين بطائرات درون لتصوير أفلامهم (Getty)
+ الخط -

يتضح عجزنا عن تصوّر شكل عالم ما بعد الجائحة مع كل يوم يمضي، ومع تغير مجمل المعلومات والتحليلات والإجراءات التي تحكم حياتنا. فبينما كان التحول الجذري احتمالاً مفروغاً منه بداية دخولنا هذا النفق، بات الاعتراف بقوتي الكسل والعادة ضرورياً اليوم، وبدأ الحديث عن ترقب عالمٍ قديم بشكلٍ أدنى من التغيرات يسود تدريجياً، سواء حمل ذلك نفساً تفاؤلياً أو تحذيرياً. في خضم هذا التغير، باتت قطاعات معينة من الحياة ضحية هذا الترقب والتغير، ولعل أوفرها حصة من الحوار صناعة الدراما، ابتداءً بشركات الإنتاج وانتهاءً بالمسارح ودور العرض.

في الأيام القليلة الماضية، شهدت بعض الدور تخبطاً بين إعادة الافتتاح التدريجية والعودة إلى الإغلاق، بينما حافظت بعض شركات الإنتاج على المرونة في مواعيد طرح أفلامها الكبيرة، التي كانت سابقاً تشغل حيزاً كبيراً من فصل الصيف. وتكللت حفلة التخبط هذه بلقاءٍ جمع وزير الثقافة البريطاني والنجم توم كروز، لتطمين الآخر على استثناء المملكة المتحدة لصناعة السينما من قواعد الحجر، معطية الضوء الأخضر لتصوير جزءٍ آخر من فيلم Mission Impossible (وهو خبرٌ أثلج صدورنا بكل حال). شمل الحديث أيضاً دور التكنولوجيا في تسهيل طرح الأعمال القادمة، سواء بما بات يسمى الإنتاج الافتراضي، أو باللجوء إلى تقنيات التحريك والرسم، والاستعارة من تقنيات صناعة ألعاب الفيديو لإبقاء عجلة الإنتاج. وإذا ما عدنا بالزمن قليلاً، إلى أخبار عالمنا القديم، سنتذكر معاً المواجهة بين نتفليكس، والحرس القديم من شركات الإنتاج التي كان فيلم The Irishman هذا العام واحداً من أبرز نقاط المواجهة فيها. وعلى ما يبدو، فإن نتفليكس حاولت في الآونة الأخيرة التفوق على خصومها "التقليديين" بخطوة على جميع الأصعدة السابقة، حين طرحت Homemade، السلسلة التي تتكون من 17 فيلماً قصيراً تغطي فترة الحجر المنزلي من مناظير عدة مخرجين ومخرجات حول العالم، ومن إنتاج المخرج التشيلي بابلو لاراين. أن تصل أولاً لا يمكن استعراض سلسلة نتفليكس الجديدة ككلٍ واحدٍ بسهولة، فالفرضية الأولى الواسعة والبساطة في الإنتاج هما ما يربطان أجزاء هذه السلسلة الأنطولوجية ببعضها، وليسا كافيين بأي حالٍ لسبك شيء من التناغم. في هذه الحالة، يصبح السؤال الأول متعلقاً بدوافع الشركة للمغامرة عبر عرض هذا العمل. وفي الحقيقة، فإن الأمر لا يتعدى كونه متعلقاً بالأسبقية، فـ نتفليكس في هذه الحالة لا تحاول وحسب العودة قبل الجميع إلى الإنتاج، بل إلى كسب الأسبقية أيضاً في التطرق إلى الحياة في ظل جائحة فيروس كورونا المستجد، وهي خطوة قد تستلزم مزيداً من الوقت لبلورتها ضمن قالبٍ سينمائي كلاسيكي. أكثر من ذلك، تحاول الشركة (والمحاولة لا تعني النجاح بالضرورة) التقرّب من الجمهور الذي لا مسرح يؤنسه اليوم سوى الأريكة، لا في شكل العرض وحسب، بل في مضمونه أيضاً. وعندما نفرّق بين المحاولة، كفعلٍ واضح مسبوقٍ بنية ومجموعة من التوقعات والأهداف، والنتيجة الفعلية، فإننا لا شك سنضطر إلى تفحص أجزاء هذه السلسلة لنرى أين تصيب وتخيب في مسعاها النبيل هذا.

الحجْر في الجنة المنزل حيث يهوى الجسد، وليس حيث يهوى القلب. فرغم الإيمان الكامل بأن المشاهير ميسوري الحال هم بشرٌ مثلنا وعرضة لمجمل المصاعب التي واجهناها أثناء الحد من حركتنا في منازلنا، إلا أن ثمة عوامل أخرى تتداخل لصناعة المعاناة، ولا شيء يلخص هذه الفكرة البسيطة كمقالةٍ في الغارديان البريطانية، يُقسَم الجميع وفقاً لها إلى طبقتين: ملّاك الحدائق المنزلية، والبقية. ولا يمكن للمشاهد حين يتابع السلسلة إلا أن يشعر بذلك، فحين تجول كاميرا هاتف سورينتينو في حديقة منزله الكبيرة ومكتبته وبركته ملاحقةً تماثيل تذكارية لبابا الفاتيكان وملكة بريطانيا وجيف ليبوسكي، فإن الشعور بالفوارق بين حجرٍ منزلي وآخر، تظهر فوراً وتلقي بالشك على فكرة وحدة الحال، التي ربما كانت ذات نفعٍ بداية تعرفنا على الفيروس، وليس اليوم.

يظهر الأمر ذاته في الفيلم القصير الذي أخرجته ريتشل موريسون وتخاطب فيها ابنها ذا الخمسة أعوام، مذكرةً إياه بكونهما محظوظين بالمنزل الكبير والأمن الغذائي والمناظر الطبيعية التي لم يطلها الفيروس وسوى ذلك.

ليست هذه الحالة الشائعة في كل الأفلام، إذ ينقل لادج لي، مستعملاً طائرة "درون"، الصورة المعاكسة، ماراً على ضاحية سين سان دوني الفقيرة والتي عُدَت من أكثر الأماكن تضرراً بسبب الفيروس. كما تتبع آنا لي أميربور دراجة هوائية في شوارع لوس أنجليس الخاوية، مقاطعةً المشاهد من المدينة مع تأملات حول ما يجري بصوت كيت بلانشيت. إلا أن هذه الصور العامة تبهت عندما تقارن بتلك التي تعلن عن نفسها بطريقة أكثر ذاتية، وعوضاً عن الشعور بالتماثل مع ما يعرض على الشاشة، يؤكد المقطعان وجود هذا التفاوت وحجمه. أسطورة الفنان وحكم المادة ثمة اعتقاد مغرق في مثاليته عن الطابع الأصيل للفنان الذي لا بد أن يظهره، بصرف النظر عن شروط الإنتاج المادية والتقنية ومجمل الأشخاص الذين يساهمون بصناعة عملٍ كالفيلم السينمائي، وبالكاد نعرف عنهم شيئاً. وإن كانت النقطة السابقة مزعجةً على الدوام (خصوصاً حين تتداخل مع أشكال أخرى من سوء الفهم كعلاقة الفنان بالعذاب)؛ فإنها اليوم، حين يواجه الكثير من الفنانون المجهول بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد، تنقل النقاش إلى مستوىً آخر كلياً.

وإن كان ثمة درس يمكن تعلّمه من Homemade فهو بطلان هذا الاعتقاد وسذاجته. فعندما تحضر أمامنا أعمال قصيرة لمخرجين معروفين، كـ باولو سورينتينو ونادين لبكي، وممثلة بحجم كريستين ستيوارت، فإننا سنلحظ تشابهاً بين العديد من هذه الأعمال وتلك التي ينتجها طلّاب مدارس السينما على الصعيد التقني، والسردي حتى. وإن كانت ثمة نقطة إضافية مشتركة بين أعمال السلسلة؛ فهي احتفاؤها بهذه البساطة عبر تذكير المشاهد نهاية كل فيلم بطريقة إنتاجه، المعتمدة غالباً على الهاتف الذكي بدلاً من معدات التصوير المعقدة، وأفراد الأسرة مكان الطاقم. ولذا، فإن بعض أجزاء السلسلة تتفوق على أخرى بما لا يدع مجالاً للمقارنة، كفيلم ماغي جيلنهال، الذي يبدو واحداً من أفلام السلسلة القليلة التي استطاعت التعبير وقص حكايةٍ ضمن الشرط الفني هذا وبالاعتماد على ما هو أعقد بقليل من مجرد كاميرا الموبايل.

مرايا العالم المستوية عندما اختارت نتفليكس عرض سلسلة Homemade لم يكن الرهان مقتصراً على مد المشاهدين بمادة جديدة وحسب، بل بنقل شيءٍ من قصصهم التي يعيشونها اليوم أيضاً. وهنا لنا أن نسأل، هل تكفي إعادة اقتطاع مشاهد من حياتنا المزرية اليوم لكي نقول إنها تعبر فعلاً عن هذه الحياة، من دون أي طبقة من التشويه الذي ينتج فناً بالفعل؟ تقدم لنا المخرجة الزامبية-الويلزية رونغانو نيوني الإجابة، ويسعى فيلمها القصير إلى تفحص العلاقة العاطفية في ظرفنا الصحي والتقني اليوم، لتدور معظم أحداث الفيلم داخل تطبيق رسائل قصيرة، كما يفترض أنه يحدث اليوم. وفي الواقع، فإن مشكلة فيلمٍ كهذا هي محاولة التماثل هذه. وعلى عكس فيلم جيلنهال، الذي ينجح في تقديم عالمٍ ديستوبي بشروطه، أو فيلمي لادج لي وآنا لي آميربور اللذين يحاولان معاينة الأثر العام ولو بشكلٍ محدود، أو رسالة الكندي-الصيني جوني ما إلى أمه، فإن عدداً من أفلام السلسلة تكتفي بإعادة إنتاج مقتطفات من الحياة اليومية، التي لا تقدم ولا تؤخر بأي حال، وباتت اليوم بفعل تطور وسائل التواصل الاجتماعي أشكالاً شائعة وليست حكراً على الفنانين وحسب.

المساهمون