هوامش على الظاهرة الاستبدادية

هوامش على الظاهرة الاستبدادية

24 مايو 2019
+ الخط -
ارتباط السلطة بالشرعية هو الميزان الذي لا ينظر إلى ضرورة السلطة بمعزلٍ عن شرعيتها. وتعاقدية السلطة في إطار عقد تأسيسي، يقوم على قاعدة السلطة، قوة في جانب منها. من جانب آخر، السلطة مسؤولية، والمسؤولية تفرض المساءلة. إنها القاعدة الذهبية، مفادها بأنها كلما زادت السلطة زادت مسؤوليتها؛ وكلما زادت مسؤوليتها زادت ضرورات محاسبتها وموجبات مساءلتها، وكل أمرٍ لا يُرتجى إلا لآثاره، ولا يؤمنه إلا العمل مرتبطا بمقاصده وأهدافه، فإن تحوّل الأمن إلى هرج، والنظام إلى فوضى، والاستقرار إلى حالة من الخنوع والخضوع، فإن ذلك كله لا يمكن، بأي حال، أن يشكّل بيئة للنماء أو الارتقاء، أو للتعمير أو للتثمير، بل هي بيئة يرتع فيها الاستبداد، ويمرح فيها الطاغية، تارة باسم الأمن، وتارة أخرى باسم حماية الدولة عند من يسمون "الدولتية". من هنا، لو كانت القوة والسلطان، كما في أحد معانيهما، القوة والبطش، فإن الوجه الثاني من معانيهما هو الحجة والبرهان. ومن هنا، وجب على السلطة أن تسير ضمن مسار سلطان الحجة. لا حجة السلطان في وجوده الضروري. ومن سلطان الحجة، يكون مسار السلطة في سياق شرعيتها (الرضا العام) ومشروعيتها (التوافق النظامي والقانوني). وليس للسلطة أن تجعل من الدستور والقانون مجالا لتلاعبها، أو تجعله ألعوبتها؛ فيفقد القانون معناه، ولا يحقّق مبتغاه، ويصير القانون ملكا لمن يضعه ويمرّره، لا تحقيقا لمصالح البشر، وضبط عناصر معاشهم؛ وسلطة تحقق عناصر قرارها واستقرارها باستبدال الخوف بالأمن، والنظام بحال الفوضى أو ما هو في حكمها من عشوائية الاستقرار المزعوم بالشرعية الحقيقية. إنها السلطة بأمراضها، السلطة المريضة التي تجعل من بطشها غاية، ومن سلوكها قيمة، هي تلوّح دائما بالبطش فتنتج "عبيدا.. خائفين مذعورين مذعنين خاضعين"، تتحوّل فيه السلطة من وظيفةٍ، عليها أن تضطلع بها لتحقيق مقصود العمران البشري وعلاقاته، إلى جهاز لا يرى إلا استقراره وقراره، وأمنه وأمانه، وحصوله على مزيدٍ من السلطة والسلطان له ولأعوانه.
هذه السلطة في تصوراتها الإدراكية للعلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم تحكمها قاعدة كلية: "ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، حتى لو كانت رؤاها عشوائية، ووسائلها تستخدم باستنسابية، ولا تملك استراتيجيات كلية، بل عشوائيات منتشرة، وتحمى عناصر
عشوائيتها بسلطتها، فتفقد حقيقة حجتها، سلطان الحجة، وتتعامل بحجة السلطان الباطشة، وتفقد وظيفتها حيال الناس والمواطنين، ولكن تحتفظ بها لها، ولها فقط، الأمن للسلطة والاستقرار والقرار للسلطان. وتفعل ذلك، فتغفل عن أن عشوائية فعلها لا بد أن تطاول بنيتها واستقرارها. وتصير عشوائية السلطة (تفكيرا أو تدبيرا وتسييرا) من أهم منتجات المجتمعات العشوائية. كما أن هذه النوعية من السلطة العشوائية تجد من أهم مصالحها تحقيق حالة من استقرار "الأمر الواقع"، طالما كان في مصلحتها وتحقيق مصالحها وتحقيق مقاصدها في بقاء السلطة استقرارا واستمرارا.
وتمارس هذه السلطة منظومة أمراضها المكرسة لحال الظاهرة العشوائية، ويمكنها جملة وتفصيلا، بعضا أو جزءًا، بما يضمن لها إقرار تسلط السلطة، وسلطة التسلط؛ وبدلا من أن تمثل السلطة خريطة القوى الاجتماعية والسياسية على أرض الحقيقة والواقع فإنها في ذاتها تمثل "القوة" احتكارا أو تسلطا، ينظم في ما بينها مصالح آنية، ووجهات شتى أنانية، يتفق هؤلاء بإعمال استبدادهم لحماية شبكات مصالحهم ومؤسسات فسادهم، فيؤصلون علاقات "زنا" بين الاستبداد والفساد، لينتج ذرية جديدة من اللقطاء وحالات من العشوائية، تزيد الظواهر تراكما وإحكاما. وهي تمارس ذلك تشوّه أصل وظائفها الحقيقية، وتستبدلها بوظائف زائفة تتخذ مسميات الوظائف القديمة نفسها (الأمن، النظام، الاستقرار)، ولكن توجهها نحو طبعات خاصة بها، ومن أجل الحفاظ على مصالحها الدنيئة. وتتلاعب السلطة في ذلك كله لتتهم كل من يعارضها بأوصاف ذميمة، وكل من يقاومها هو طالب للسلطة، يريد أن يختطفها أو يركبها، وهو يحتال للوصول إليها.
"السلطة ذات مصونة لا تمسّ" إلا من أهلها وعموم أهلها لا يسمحون لغيرهم بالاقتراب من حياضها، تتلاعب السلطة بكل أنساق الإدراك والتفكير والتعليم والتربية والتثقيف والإعلام، وبكل أنساق القيم فترفعها شعاراتٍ، وتنتهكها على أرض الواقع، وتنتج مواطناً أو بالأحرى "عبداً" يري ما يرى وهو صامت، يؤدى ما يطلب منه من غير "تعقيب"، أو "وجع دماغ"، وتمرّر قيم سلطوية مؤاتية لحركتها وتحقيق مصالحها، وهي كذلك تتلاعب بأنساق السلوك، تقيم كل عناصر سلوكها على قاعدة من التمثيل "حق الأداء العلني" للجماهير، في إطار من التعبئة العامة لهؤلاء يساندون الحكم والحاكم، وإن لم يقل خيرا في السلطة، أو يسبّح بحمدها، فعليه أن يصمت، على قاعدة القسر على السكوت، فتؤسس لبيئة الصمت والسكوت. والسكوت لدى هذه السلطة علامة على الرضا والاستقرار. ولكن في حقيقة الأمر قبول في ثوب الإذعان، ورضا زائف أو كاذب، وهي ما استطاعت تقيم سلطانها على قاعدة من السكوت، ولا بأس إن وجدت من يتكلم أن تلقي الكلام على لسانه "فتوزع الكلام" "وتوزع الأدوار" ضمن علاقة "السيد والعبد".
تؤسّس لذلك وبه نظاما، وما هو بنظام، يحافظ على أمرٍ واقعٍ ظالم في معادلاته، شائه في علاقاته، عشوائي في تفاعلاته. ولكن في النهاية يضمن للسلطة البقاء، ولكن سلطة الاستبداد
 حينما تكون عاتيةً باطشةً فاشيةً طاغية، قد لا تقنع بسكوت قادة رأي فتكرههم على حديث النفاق قسرا، فإن امتنع كان من المجرمين والمتهمين. وهي تمارس ذلك كله في إطار إصلاح ضال تقوم به ليل نهار، "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون". هكذا تستبدل عناصر السلطة أمن الناس بأمنها، فتجعله من القلب من وظيفتها الأمنية، وإذا كانت أي سلطة يشغلها الجانب الأمني، ولكن يزداد هذا الانشغال حتى يصل إلى أقصى درجاته لدى السلطة غير المنطقية، ولدى السلطة الفرعونية، ولدى سلطة السلطة. إنها السلطات المستبدّة التي تجعل من هواها سلطة، ومن أفكارها رشدا، ومن أساليبها طريقة مثلى.
السلطة في هذه الطبعة الاستبدادية لا تقبل المراجعة أو المحاسبة أو المساءلة هي سلطة حسبما اتفق، تمارس كل عناصر عشوائيتها، وتسميها سياسة واستراتيجية وخطة، أو تجعل من ذلك كله، ما نسميه خططا خمسية أو عشرية، غطاء لحالة عشوائية مكنونة، أو مستورة. تتحرّك في جوفها، فتزيد الأزمات وتتراكم، فلا ترد هذه الأزمات مرة واحدة إلى سوء عملها، أو حال تقصيرها، أو حال قعودها عن الإنجاز، هي المنجزة أبدا، هي الفاعلة دائما، هي التي تسهر على راحة الناس على طريقتها، ألا تستحق سلطةً مثل هذه الأمن والأمان؟ ولأن الأمر لا يخلو من متربص يتربص بها، ومن خصم يحاول القفز على السلطة وكراسيها، ولا ضير أن نضيف إلى أعداء الداخل أعداء الخارج، فالسلطة مستهدفة، وهناك من يحاول تعطيل مسيرتها في إشاعة الأمن والنظام والاستقرار، ليكون المجتمع مؤهلا للعمل والنماء والارتقاء. وإذا لم يحدث أي شيء من هذا، فإن الأمر قد يعود إلى زيادة سكانية تأكل النمو؛ ولا تتحدّث عن فسادها الحقيقي، أو فساد أعوانها إلا من كُشف. وهي أيضا في هذا المقام ضمن هواجسها "الأمنية"؛ أمن السلطة، تشعر في دخيلة نفسها أنها اغتصبت شيئا مهما من الجماهير. لذلك فهي تتوجّس خيفةً من هذه الجماهير، ولا تصدق مظاهر ولائها، وهي من تملك مصانع تزييفها وتزويرها.

دلالات

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".