هنا في الصخيرات
هنا في الصخيرات
الحسن الثاني نجا من محاولة انقلابية دامية في الصخيرات
مدينة صغيرة بين الرباط والدار البيضاء، شاطئية (50 ألف نسمة)، اسمها الصخيرات. أتعرّف إليها أول مرة، وكنت قد أقمت في المغرب نحو أربع سنوات، ثم زرته مرات. أمكث فيها ضيفاً أربعة أيام في مؤتمر. المطر الخفيف والدافئ والأشجار الكثيرة "معلمان" وحيدان أُعاينهما فيها، وقد صرت أعرف أنها مصيف بهيج، يلوذ إليه زائرون عديدون في الصيف. هذه شهرتها هنا، في المغرب، أما شهرتها الأهم، في زعمي، ففي أنها شهدت محاولة انقلاب عسكرية في 1971 على الملك الراحل الحسن الثاني. ولا شطط ولا تزيّد، إن ذهبتُ، هنا، إلى أن المغاربة محظوظون، لأن تلك المغامرة التي قام ضباط كبار في الجيش المغربي لم تنجح.
نعود في بطن الليل، أنا وصديقي الذي ينازعني في هوى المغرب، الروائي العراقي، شاكر نوري، إلى الصخيرات، بعد سهرةٍ مع أصدقاء في الرباط. الضوء خافتٌ في الطريق غير القصير، والسيارة خطوها وئيدٌ، واثنانا في ثرثرةٍ كيفما اتفق، يقطعها السائق المغربي، حين يؤشّر إلى يمينه، على جانب الطريق، ويُخبرنا أن هناك قصر الملك الذي شهد محاولة الانقلاب في 1971. سألناه إن كان القصر ما زال (خدّاماً)، أي هل يعمل، ويتردد عليه الملك محمد السادس، فيجيب الرجل بالإيجاب. كانت ملاحظته خارج سياق حديثنا، أنا وشاكر. لعلّه حدس بأننا، ونحن غير مغربييْن، نعرف عن محاولة الانقلاب تلك. لم نُبصر في غبش الليل الماطر، في نحو الثانية، شيئاً، وإنْ بالكاد لحظت عيوننا سوراً، بدا طويلاً، وأشجاراً أخرى، أَبعد من أشجارٍ كثيرة على جانبينا.
هما محاولتا انقلاب شهيرتان، عرفهما المغرب. الأولى تلك التي أراد (تذكيرنا) بها سائق سيارة الأجرة، والثانية تلتها بعد عام، وكان مخططاً فيها قتل الحسن الثاني في طائرةٍ كان يستقلها. هنا في الصخيرات، أُريد ربما، قتله، أيضاً، في أثناء احتفال بعيد ميلاده، لمّا اقتحم عسكرٌ قصره، ثم صارت حكاية طويلة عريضة. كتب وروي أن الملك اختبأ في أثنائها جيداً، فنجا، وسيطر حرسه المخلص على الأوضاع، وأن عبد الحليم حافظ كان يسجل في الإذاعة المغربية، أغنيةً عنه، لمّا اقتحم عسكرٌ من الانقلابيين الإذاعة للسيطرة عليها.
المهم، في تلك الواقعة، أمران جوهريان، أن العسكر الطامعين في عرش الملك لم يتمكّنوا منه، فلم يفلحوا في إنهاء النظام الملكي. وأن العقوبة التي تم القصاص بها ضد الضباط والعسكر، ومَن تعاطف معهم، كانت مريعة وشديدة القسوة، سنوات طويلة في سجون المغرب، وكذا ضد الذين شاركوا، تخطيطاً وتنفيذاً، في محاولة انقلاب 1972 مع الجنرال، محمد أوفقير، وزير الدفاع والداخلية في حينه، والذي قالوا إنه انتحر بعد فشل ما أراد. أما الجنرال محمد مذبوح، نجم محاولة الصخيرات، فقد كُتب أن شريكه فيها، الكولونيل محمد اعبابو، قتله في أثناء تبيّن فشل ما أراداه. ومجازاً، أكتب، هنا، أنه بفضل تينك الواقعتين الفاشلتين (ثمّة غيرهما)، عرفت الكتابة السردية في المغرب في أدب السجون، في الرواية والقصة والسيرة واليوميات والمذكرات، انتعاشاً إبداعياً طيباً. وإلى يومنا هذا، يُزوّد معتقل تزمامارت المخيف، (تمت إزالته) في الجنوب المغربي، مخيّلات كتّاب مغاربة بالكثير. والمعتقل المذكور (استضاف) عديدين من المشاركين في واقعة الصخيرات، منهم محمد الرايس، وله مذكراته "تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم" (ترجمها زميلنا عبد الحميد اجماهيري)، وأحمد المرزوقي، وقد كتب "الزنزانة رقم 10". وثمّة في الرواية "تلك العتمة الباهرة" للطاهر بن جلون، وغيرها، وأخيراً، رواية الصديق، يوسف فاضل، "طائر أزرق يحلق معي"، المستوحاة من مشاركٍ في محاولة انقلاب أوفقير. أما غبطتي المغاربة بأنهم نجوا من انقلابيْن مروعيْن، فشل أولهما في الصخيرات، حيث أكتب هذه السطور، فروايةٌ أخرى، تنكتب في غير بلد عربي منذ عقود.