هل يرفع كلاكيت غزة فَكّيْهِ عن شريطها السينمائي؟

هل يرفع كلاكيت غزة فَكّيْهِ عن شريطها السينمائي؟

15 مايو 2017
(إحراق قاعة سينما في غزّة، تصوير: محمود هامس)
+ الخط -
صحيحٌ أنّ غزة تكاد تتصدّر العالم في إنتاج مشاهد الموت والحرب والحصار، لكن هذا لا يُحجرُها عن المُنافسة في إنتاج مشاهد الحُب والرقص والجمال؛ فهذهِ المدينة خَصبة بالقصص الجميلة التي لا تَحدُث إلا فيها؛ فهي حتّى في حروبها و مآسيها تُمارسُ ما تيسَّر لها من الحياة وتطعمُ أهلها قِطع الحُب.

لكن ما يمنعُها عن ذلك عِدة أسباب: فهذه المدينة اليتيمة التي يحكمُ الحصار قبضته على خاصرتها، كما يمنع دخول الأشياءِ إليها، كذلك يمنع خروج ثقافتها إلى العالم، وغرقها في مشاكل معيشتها من أزماتِ كهرباء ووقود ورواتب وقضايا التعبير عن الرأي، جعلها تَغضُّ البصر عن ذلك.

لكن العِلة الأساسية في ذلك هي عدم وجود دار للسينما في غزّة، ويرجع السبب هنا إلى الإرهاب الثقافي الذي تمارسه الجماعات الإسلاموية، وقلّة الوعي لدى العامة بمفهوم وأهميّة السينما.

فغزّة كان بها العديد من دور السينما، أولها أُنشئت برعاية الحاج رشاد الشوا حيث جاء بالقماش الأبيض من المجدل، وأجهزة السينما من أوروبا، والأفلام من مصر، ليفتتح بها سينما السامر في عام 1944، وزار هذه السينما كلٌ من أسمهان وشقيقها فريد الأطرش. وبعد عام 1953 ازداد عدد دور السينما في القطاع وانتشرت في كلٍ من غزّة وخان يونس ورفح، منها النصر والجلاء وعامر والنهضة والسلام وصابرين والحريّة وغيرها. وكانت أغلب الأفلام تأتي إلى غزّة من مصر.

أوّل ما أدّى إلى إغلاق السينما في غزّة هو الإسلام السياسي، الذي حرَّضَ من خلال المساجد ضدّ هذه الدور، والذي ساوى-حسب وجهة نظره-السينما بالخمّارة، والحفلة الموسيقية ببيت الدّعارة، فأحرقَ ما أحرق و دُمِّر ما دُمِّر. وعقب قدوم السلطة الفلسطينية تم إعادة اِفتتاح سينما النصر، لكنها سُرعان ما أحرقت ثانيةً بالأيادي نفسها.

غزة من أكثر مدن العالم كثافةً وأية مدينة بحاجة إلى تسلية جماعية، سواءً كانت حفلة، مباراة، أو فرقة سيرك أو حتّى سينما-وإن أردت الدقّة- فلا أعتقد أن هناك مدينة في كل العالم لا توجد بها لا مباريات كرة دولية ولا حفلات سنوية ولا سينما ولا أي وجهٍ آخر للفرح سوى غزّة.

غزّة مليئة بالموهوبين من مُخرجين وممثلين وكُتّاب وتقنيين في عالم الإنتاج السينمائي، لكن صناعة السينما تأخذ الطابع الفردي والبسيط لأن صناعة السينما تحتاج إلى مؤسسّات تموّل وحكومات تَدعم، ولا تتنافس في قمعِ الحريّات.

ووجود دار سينما لا يعني مُجرّد شاشة عرض كبيرة ومجموعة كراسٍ. دار سينما تعني خلق روح المنافسة المحليّة للعاملين في مجال إنتاج الأفلام، خلق فرص عمل للمخرجين والتقنيين وغيرهم، إنشاء أكاديمية لتعليم صناعة السينما، توفير أجواء السينما الجميلة للعامة من اندماج وتفاعل مع أحداث الفيلم.

عدم وجود دار للسينما، أدى إلى تراجع في حركةِ صناعة السينما وخصوصًا الأفلام الروائية حيثُ لا يوجد مكان لعرضها، وأيضًا إلى عزلِ غزّة عن العالم؛ فلا هي على خطةِ التوزيع ولا في دائرة الإنتاج، كما أدّى إلى إقصاء مفهوم السينما وثقافتها عن أذهان العامة، والأهمُ من ذلك أنهُ لا مكان للعاملين في صناعة السينما من كُتّاب ومخرجين وتقنيين. فوجود الشعراء والكتّاب مثلًا لن يؤثّر في ثقافة العامة إن لم تتوفر مكتبات ودور نشر وحفلات التوقيع، وكذلك الأمر في صناعة الأفلام، خاصةً أنهُ ليس الكل يقرأ، لكن الكل يتابع السينما.

في الثاني عشر من مايو/ أيّار من كل عام-بدءًا بعام 2015-في قطاع غزّة، ستلمح في البعيد أو تسمع في نشرة الأخبار عن تجمهرٍ لعدد كبير من الناس؛ من كافة الطبقات والأعمار والأيديولوجيَّات، لا لصلاة جمعة ولا لتنظيم مسيرة احتجاجًا على انقطاع الكهرباء؛ بل لأن مهرجان السجّادة الحمراء قد بدأ. هذا المهرجان السينمائي الذي هو إبداع المخرج الفلسطيني خليل المزيّن وفريقه، الذي يُعيد الحياة للغزّيين، فهو المهرجان الوحيد الذي يُنفّذ من أجل العامة، لا للحضور النخبوي ولا لبيع التذاكر.

ففي عامه الأوّل أقيم المهرجان في حي الشجاعية شرق مدينة غزّة، وكانت السجّادة الحمراء بين ركام البيوت والذكريات المدمّرة جرّاء الحرب الإسرائيلية عام 2014، ويمشي عليها اللاجئون من هذه البيوت، لجرِّ العالم من أذنه والصراخ في وجهه: "هذه هي غزّة، غزّة التي تريد الحياة كما وردة في حقلِ خراب".

أما في هذا العام فقد أقيم المهرجان فيما يُشبه "ميناء غزّة البحري"، لإيصال رسالة كقارب ورق بأن غزّة تريد أن تحرِّك هذا القفل الثقيل المسمّى "حِصار".

وتُعرض خلال المهرجان مجموعة من أفلام حقوق الإنسان المحلية والعالمية، الروائية والوثائقية، القصيرة والطويلة، والتي-غالبها- يُعرض لأوّل مرّة في فلسطين، وفي هذهِ الدورة، من الأفلام التي عُرضت:

- فيلم "اصطياد أشباح" للمخرج الفلسطيني رائد أنضوني، الفيلم الذي أبطاله معتقلون فلسطينيون سابقون يعيدون تمثيل ما عاشوه خلال فترة اعتقالهم والتحقيق معهم في السجون الإسرائيلية، الذي يُريك مدى صعوبة تمثيل دور الأسير، فما بالك بمن يعيشه حقًا؟.

- فيلم "الببغاء" للمخرجين الأردنيين أمجد الرشيدي ودارين سلام الذي يعرض قضية تهجير الفلسطينيين عام 1948 وإحلال اليهود مكانهم بطريقة سينمائية ذكيّة مع القليل من الكوميديا الساخرة، من خلال تصوير قصة هجرة عائلة يهودية مشرقية قادمة من تونس إلى فلسطين، والعنصرية التي تواجهها من اليهود الأشكناز، والببغاء هو الوجود والذاكرة الفلسطينية التي من الصعب أن يتمّ دَحرها.

- فيلم "الهاربون إلى الغانج" وهو فيلم وثائقي للمخرج الفلسطيني تحسين محيسن، عن حياة اللاجئ الفلسطيني الذي قُتل أفراد من عائلته واِقتُحم بيته، وهُدِدَ من قبل مليشيات إرهابية في العراق بعد أحداث 2003، فما كان منه-بعد رفضه من قبل الدول العربية-إلّا أن يبقى ليلاقي حتفه أو يهرّب إلى الهند التي لم تسقهِ من نهر الغانج.

وقد لاقت الأفلام تفاعلًا كبيرًا من الحضور، لأن حلم الكثيرين قد تحقّق في دخول السينما، حيث أن غالبية سكان القِطاع لم يجربوا هذا الشعور طيلةِ حياتهم، فهذا حقًا حلم لدى الغزّيين، فهم يحلمون بدخول سينما حقيقية؛ أن يتمتّعوا كغيرهم من الشعوب بمواكبة السينما العالمية، أن يجلسوا على الكراسي الحمراء رفقة عائلاتهم أو أصدقائهم وهم يحملون أكياس الفُشار.

فالشعبُ الغزيّ من أكثر الشعوب متابعةً للأفلام العالمية، لكن أجواء السينما شي آخر؛ من حجز كل شخص تذكرةً لفيلمه المفضل والاندماج مع شخوص الفيلم وضحكاتِ المشاهدين وحماسهم في متابعة الأحداث، وتشكيل حلقات المناقشة عند بوابةِ الخروج.

كما تكمن أهمية السينما-والفنون التصويرية بشكل عام-أنها غالبًا ما تعمل كمرآة للواقع وهو ما يحتاج الفلسطينيون إلى توثيقه ونقله إلى عيون العالم، بخلاف الأدب الذي هو انتقائي، أي غِربال للواقع.

وتبقى أمنية وجود دار للسينما في غزّة حلمًا لم يتحقق بعد، لذا أتمنى أن يكون مهرجان السجادة الحمراء العام القادم في سينما مهجورة من دور سينما غزّة لتسليط الضوء على ضرورةِ إعادة إحيائها. كما أتمنى أن يعي كومندان غزّة أن حرمانية إطفاء الأنوار عند عرض الفيلم لا علاقة لها بالدين، كحرمانية العيش لعشرِ سنوات دونها.