هل يأكل الفلاح؟

هل يأكل الفلاح؟

02 يوليو 2020
+ الخط -

"محلاها عيشة الفلاح.. متطمن قلبه ومرتاح.. يتمرغ على أرض براح.. والخيمة الزرقا ساتراه.. دي القعدة ويّا الخلّان.. والقلب مزأطط فرحان.. تثاقلها بجنة رضوان.. يا هناه اللي الخِلّ معاه.. دي الشكوى عمره ما قالهاش.. إن لاقى ولّا ما لقاش.. والدنيا بقرشين ما تسواش.. طول ما هو اللي حبّه حداه".

حين وجدت هذه الكلمات التي كتبها بيرم التونسي طريقها إلى شاشة السينما بصوت أسمهان، قبل أن يعيد ملحنها محمد عبد الوهاب غناءها بصوته، لم يصدق محبو بيرم أن ساخراً متمرداً مثله يمكن أن يكتب هذه الكلمات في تمجيد أوضاع الفلاح المصري التي يعلم أنها مزرية وبائسة، واعتبر بعضهم تلك الأبيات جزءاً من حالة التعب التي أصابت بيرم بعد تلطيمه الطويل في المنافي، وقراره بالعودة إلى الوطن والتصالح مع أوضاعه ومدح حكامه إن تطلب الأمر، وهو تفسير لم يتفق معه محبو بيرم الذين يحسنون الظن به، حتى أن بعضهم قال إن بيرم التونسي كان يسخر بتلك الكلمات من محمد عبد الوهاب الذي لم يكن يحب صوته، وقام بانتقاده في قصيدته الشهيرة (يا أهل المغنى دماغنا وجعنا)، لكن البعض رد على ذلك التصور بالإحالة إلى الكوبليه الأخير من الأغنية الذي يقول فيه بيرم بجدية منتقداً أوضاع الريف المصري: "يا ريف أعيانك جهلوك.. وعُزّالهم شالوه وهجروك.. لمداين مزروعة شوك.. يا ما بكره يقولوا يا ندماه".

في عددها رقم 401 الصادر عام 1942، قدمت مجلة (الإثنين والدنيا) رداً على تلك الرؤية التي انتشرت في الصحف والمجلات والأفلام والمسرحيات، وجسدتها كلمات بيرم التونسي، والتي تعتبر أن الفلاح المصري لا يعاني أبداً من المشاكل التي يعاني منها أبناء المدن، وتلوم أعيان الريف على هجرتهم الريف إلى المدن، لتحاول المجلة أن تضع الأمر في سياق أوسع يشرح الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها الفلاح المصري والتي تؤدي به إلى الجوع هو وأولاده، مختارة لمقالها عنوان (هل يأكل الفلاح؟)، مشيرة إلى البحوث العلمية التي تقول إن الرجل الواحد يحتاج بأسعار ذلك الزمان إلى 52 مليما يوميا ثمنا لغذاء صحي كاف له أي 156 قرشا شهريا، ويحتاج الرجل وزوجته إلى 92,6 مليما يوميا، ويحتاج الرجل وزوجته وطفل واحد إلى 111,8 مليما يوميا، أي 335,4 قرشا شهريا، وأرجو ألا تضع نفسك في مواقف بايخة فتقارن تلك الأرقام بأرقام زماننا.

يقول بيرم بجدية منتقداً أوضاع الريف المصري: "يا ريف أعيانك جهلوك.. وعُزّالهم شالوه وهجروك.. لمداين مزروعة شوك.. يا ما بكره يقولوا يا ندماه".

تسأل المجلة بعد ذلك قراءها: "هل مثل هذا المبلغ متوفر للفلاح المصري إذا قدرنا أن الأسرة مكونة من رجل وزوجته وطفل؟ والواقع غير ذلك تماما، فإن نسبة عدد الأسر التي يزيد عدد أفراد كل منها عن ستة أشخاص وقد تصل إلى 24 شخصا، عبارة عن 36 في المائة من مجموع الأسر في مصر، ذلك لارتفاع نسبة عدد المواليد في مصر"، ثم تشير المجلة إلى نقطة هامة هي انخفاض نسبة إيراد الفرد من الفدان، مقارنة بغيره في الدول الزراعية الأخرى، فإذا قدرنا أن إيراد الفدان في مصر يمكن تقديره في أحسن الأحوال بـ 12 جنيه، فإن نصيب الفلاح الفرد في اليوم الواحد من ذلك الإيراد لا يتجاوز بأي حال 13 مليما، بينما المطلوب له ليتغذى إذا كان يعيش بمفرده هو 52 مليما، أي أنه لا يمتلك إلا ربع المطلوب لغذائه، فضلا عن ما يحتاجه من ملبس وحاجات أخرى.

تضيف المجلة في شرحها لعيشة الفلاح الذي لم تستره الخيمة الزرقاء: "ما يدعو إلى الأسف أن هذه الحالة تزداد سوءا عاما بعد عام، فبعد أن كان نصيب الفرد في سنة 1897 هو 87 في المائة من الفدان أي 21 قيراطا، إذا به يهبط تدريجيا مع الزمن حتى وصل في سنة 1937 إلى 41 في المائة، أي عشرة قراريط، ومعنى هذا أن أرض مصر الحالية لا تكفي حاجة أبنائها حتى لو وزعت توزيعا عادلا، فما بالك وتوزيعها أمره عجيب، فإن 93 في المائة من مجموع الملاك يملكون 20 في المائة من الأراضي الزراعية، بينما 7 في المائة يملكون 80 في المائة منها، وأن نصف هذه الأراضي يمتلكها حوالي 13 ألف من كبار الملاك، أي عدد سكان قرية واحدة قد لا يحسنون استثمارها".

منذ أن بدأت إدمان قراءة الصحف والمجلات القديمة، خلال ترددي على دار الكتب بالقاهرة أثناء دراستي الجامعية بكلية الإعلام، كنت أعشق قراءة باب (أين تذهب هذا المساء)

تصف المجلة هذا الوضع بـ "الشاذ"، قائلة إن هذا النظام مقلوب الموازين يترتب عليه أن "يعيش في وادي النيل حوالي 4 ملايين شخص يقل إيرادهم اليومي عن ثلاثة قروش منهم مليون و667 ألف و526 شخص يملكون أقل من 41 في المائة من الفدان، و659 ألف و882 عامل زراعي بأجر يومي يقل عن ثلاثة قروش، و570 ألف طفل تزيد أعمارهم على عشر سنوات ولا يشتغلون، و612 ألف و573 عامل زراعي يساعدون ذويهم، و52 ألف و253 راعٍ للمواشي، و21 ألف عامل عاطل، و40 ألف عامل ترحيلة، وعشرة آلاف ما بين متشرد ومتسول، ومعنى ذلك أن كل هذا العدد لا يجد ما يكفيه من غذاء له ولأولاده، والسبب في ذلك أن عدد سكان هذا الوادي يقفز نحو الزيادة، بينما موارد الثروة العقارية تحبو وتتعثر، هذا هو سبب فقر الفلاح المصري فكيف العلاج؟".

لم أجد في الأعداد التالية محاولة من المجلة لطرح العلاج الذي تساءلت عنه كما يراه خبراء متخصصون، ربما لأن ما نشرته أغضب أحداً ما، فطلب من المجلة أن تركز في الموضوعات الخفيفة التي اشتهرت بها، بدلاً من الموضوعات الكئيبة التي تطرح أفكاراً كان من يدعو لها في ذلك الوقت يتهم بالشيوعية والأفكار الهدامة، والمؤكد أن الأرقام التي طرحتها المجلة لم تكن سرية، بل كانت مستقاة من الإحصائيات الرسمية التي نشرتها العديد من الصحف وتناولها الكثير من الكتاب والسياسيين بالتحليل، لكن المسئولين عن مصر قرروا تجاهل هذه الرؤى والأفكار، وفضلوا اعتماد الرؤية التي تحسد الفلاح على عيشته وعلى تمرمغه في الأرض البراح، ثم استغربوا حين قامت في البلد ثورة، لم تمنعها الكلمات المنقوعة في التعريص والتضليل.

....

أين تذهب هذا المساء

منذ أن بدأت إدمان قراءة الصحف والمجلات القديمة، خلال ترددي على دار الكتب بالقاهرة أثناء دراستي الجامعية بكلية الإعلام، كنت أعشق قراءة باب (أين تذهب هذا المساء) وما أشبهه من أبواب تختص بنشر إعلانات عن العروض السينمائية والمسرحية والفنية التي تعطيك فكرة كافية عن طبيعة التسلية التي كانت سائدة في فترة زمنية ما، ومظاهر التنافس القائمة بين أصحاب الأعمال الفنية. لكن، مع الوقت لم تعد قراءة ذلك الباب المسلي مسلية، لأن كثيراً من دور العرض السينمائي والمسارح التي ترد فيه لم يعد لها وجود، برغم أن أجهزة الدولة في عهد مبارك ومن تلوه، لم تكف عن الطنطنة بالدور الذي تلعبه في حماية الفنون ومكافحة التطرف، ويمكن أن تجد مثالاً على ما أقوله إذا استعرضت باب (أين تذهب هذا المساء) الذي نشرته صحيفة الأخبار القاهرية في عددها الصادر بتاريخ 2 يونيو 1966، ونشرت فيه الإعلانات التالية:

مسرح الريحاني فرقة نجيب الريحاني تقدم المسرحية الجديدة سلفني حماتك

ملهى جرانادا السياحي بميدان الأوبرا: الفنانة صفية حلمي

مسرح البالون الفرقة الاستعراضية الغنائية تقدم أوبريت وداد الغازية

المسرح الحديث يقدم: سهرة مع الجريمة

مسرح الحكيم يقدم: النصابين

مسرح متروبول الافتتاح الكبير قريباً: شريفة فاضل ـ محمد رشدي ـ سهير زكي ـ أحمد غانم ضحى ـ عزة شريف ـ ليلى سلطان

مسرح العرايس يقدم: الفيل النونو الغلباوي

سينما كايرو: زوربا اليوناني سكوب أنتوني كوين إيرين باباس

سينما رمسيس: السراب جريجوري بيك ديانا بيكر

سينما قصر النيل: معركة الأدغال ريتشارد ويدمارك

سينما ريفولي: رجل من استنبول ألوان

سينما مترو: الحب دائما كوني فرانسيس

سينما أوديون: إيرما الغانية الأسبوع الثاني بنجاح عظيم

سينما أوبرا: مطاردة على الجسر

ملهى نيو أريزونا بشارع الألفي: عواطف فاضل ـ سعاد مكاوي ـ وفاء كامل ـ زيزي عبده ـ سمر ـ ليلى يسري ـ محمد عبد الله ـ كوكا عبده ـ المنولوجست علي كريم ـ محمص وحلاوة ـ تخت شرقي ـ أوركسترا مفاجآت.

سينما ريالتو بالظاهر: مراتي مدير عام ـ منتهى الفرح ـ مطاردة الجاسوس ألوان

سينما ريو بباب اللوق: فرقة النتحار ـ الجاسوس فريد شوقي ـ الحب على الطريقة الإيطالية ألوان

ـ سينما ستار السيدة زينب: الحب على الطريقة الإيطالية ـ الطريق شادية رشدي أباظة ـ فرقة الانتحار

ـ سينما حديقة الكرنك: ليلة غرام مريم فخر الدين ـ نسور الإنقاذ سكوب ألوان ـ حطمت قيودي سكوب ألوان

ـ سينما ستراند شبرا: اللهب شكري سرحان سميرة أحمد ـ اللص سكوب ألوان ـ بياعة الجرايد ماجدة نعيمة عاطف

سينما الأمير: الزجاجة السحرية سكوب ألوان ـ سبيرا سكوب ألوان

سينما مسرة بشبرا: شاهد إثبات مارلين ديتريتش ـ قافلة المجد توم ترايون

سينما روكسي مصر الجديدة: عشيقة زوجي جورج بيبارد

سينما الفالوجا منشية البكري: عالم مجنون مجنون مجنون ـ الشياطين الثلاثة رشدي أباظة حسن يوسف

ـ سينما الصقر الفضي العباسية: الجاسوس فريد شوقي ـ المناضلون بيرت لانكستر ـ النظارة السوداء نادية لطفي ـ أحمد مظهر

ـ سينما هوليود بشارع الجيش: أنا والأسد والناس ـ امرأة شاذة سكوب ألوان ـ اسماعيل ياسين في الأسطول محمود المليجي زهرة العلا

سينما الجزيرة داخل النيل المنيل: الهروب الكبير ألوان جيمس جارنر ستيف ماكوين ـ الجبابرة ألوان ـ كلهم أولادي صلاح ذو الفقار ـ حسن يوسف

ـ سينما الحدائق بحدائق القبة: خذني معاك سميرة أحمد أحمد رمزي ـ النصاب فريد شوقي ـ فاتنة السباق سكوب ألوان

سينما جرين بالاس المنيل: ثلاث فتيات للزواج ـ سبارتاكوس ـ الشيطان الصغير سميرة أحمد

سينما الروضة: انتصار زوجة ـ هروب في الصحراء ـ نساء محرمات هدى سلطان

كازينو رمسيس الهرم: الفاتنة جواهر ـ باليه سهام شو العالمي ـ المطربة ثناء ـ المطربة ضحى ـ ثلاثي المسيري الفكاهي ـ الكاوتشوك رماح ـ فرقة رمسيس للفنون الشعبية باشتراك شفيق جلال

ـ صحاري سيتي: رقصة الزار الخاصة ـ رقص أفريقي من الغوريلا ـ الراقصات نانا وكريمة ونجوى

سينما سمارة بالدقي: ملوك الشمس بول براينر آخر كدبة فريد الأطرش البعض يفضلوها ساخنة ـ مباراة محمد علي كلاي

سينما مرمر بالدقي: باسم الحب لبنى عبد العزيز حسن يوسف ـ كنج كونج ـ أقوى رجل في الهند ـ الأشقياء الثلاثة شكري سرحان سعاد حسني

ـ سينما الفانتازيو الصيفي والشتوي: المشاغب فريد شوقي ـ بياعة الجرايد ماجدة يوسف شعبان ـ رياضة الرجال المفضلة ألوان روك هدسون

ـ سينما شهر زاد: العجوز والبحر ـ هارب من الخدمة ـ الهوا ما لوش دوا شادية كمال الشناوي

ـ كازينو مسرح شهر زاد: محمد عبد المطلب ـ محمود شكوكو ـ زينات علوي ـ هند علام ـ أحمد الحداد ـ بثينة جمال ـ ليلى محمد ـ فاضل وماير ـ فرقة شهر زاد الاستعراضية

ـ ملهى نيو أريزونا بشارع الألفي: عواطف فاضل ـ سعاد مكاوي ـ وفاء كامل ـ زيزي عبده ـ سمر ـ ليلى يسري ـ محمد عبد الله ـ كوكا عبده ـ المنولوجوست علي كريم ـ حمص وحلاوة ـ تخت شرقي

إذا كنت من سكان القاهرة الكبرى وضواحيها فامسك أعصابك، وقل لي كم مكاناً من هؤلاء تم إغلاقه لسبب أو لآخر، ثم قل لي: أين ستذهب في أول مساء تكون فيه مطمئناً تماماً لانتهاء هذا الوباء اللعين؟ 

 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.