وفي مشروع حفتر من تعتبرهم تركيا أعداء لها، فقد أعلنت، في أكثر من مناسبة، أن حكومة أبوظبي كانت أحد الأطراف الخارجية التي وقفت وراء محاولة الانقلاب الفاشلة، ودعمت جماعة فتح الله غولن. وأدرجت، قبل أيام، على لائحة المطلوبين لديها، اسم المفصول من
حركة فتح، الفلسطيني محمد دحلان، الذي يحظى بمكانة كبيرة لدى ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، لدوره في الانقلاب الفاشل. وللمذكور دور بارز في الإشراف على تنفيذ مشروع بن زايد والسيسي في ليبيا. وقد يتبادر إلى الذهن سؤال عن ماهية المشروع الإماراتي في ليبيا من زاوية عدائِهِ تركيا أو تهديد أمنها القومي؟
اعتقدت أبوظبي، وخلفها نظام السيسي، أن أسهل ساحة لتحقيق انتصار ضد تركيا وقطر في المنطقة هي الساحة الليبية، وعليه كثفوا دعمهم حفتر، خصوصا بعد فشل انقلاب غولن وحصار قطر، ضد القوى التي يرونها موالية أو مدعومة منهما. ووظفت أبوظبي كل علاقاتها الدبلوماسية لتحشيد دعم دولي لحفتر وإعطائه الشرعية، ونجحت في كسب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى صفها، كما نجحت في إقناع روسيا بدعم حفتر، ورتبت زيارة له إلى حاملة الطائرات الروسية، أدميرال كوزني ستوف، وإلى موسكو، التقى خلالها مسؤولين كباراً، وعقد اتفاقيات عديدة اقتصادية وعسكرية، بل طبع المصرف المركزي التابع لحفتر عملة ليبية في روسيا قدرت بستة مليارات دينار. ويذكر أن روسيا شعرت بإهانة كبيرة، عندما أُخرجت من ليبيا بعد إسقاط نظام معمر القذافي من دون أي كعكة لها. ولذلك انتظرت الفرصة المواتية للعودة إليها، فجاء انقلاب حفتر يمنحها تلك الفرصة، وبرضا وتنسيق من أبوظبي والسيسي، فتصاعد الدور الروسي في الشأن الليبي، ومعه الفرنسي، وانكفأ الدور الأميركي، وبقي الإيطالي متردّدا.
وبالنظر إلى خريطة المحاور المتصارعة اليوم في ليبيا، ثمة معسكر حفتر يدعمه محور
إماراتي مصري بغطاء دولي أعلى، وهو الغطاء الروسي. وكان رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبية، خالد المشري، قد صرّح عن وجود مرتزقة روس يقاتلون في ليبيا. ومعسكر حكومة الوفاق، ومجموعات الثوار المساندة لها وقوى الغرب الليبي، تدعمه تركيا وقطر، وبدرجة أقل إيطاليا، بينما الموقف الأميركي مراقب، وينسق مع الطليان.
بمقارنة للمشهد في سورية، معسكر النظام وحلفاؤه تدعمه روسيا عسكريا وسياسيا، ومعسكر المعارضة المناهض للنظام تدعمه تركيا مالياً وعسكرياً وسياسياً. ولكن ما الذي نتج عن انخراط أنقرة وموسكو في الصراع السوري؟ نجم عنه تنسيق عالي المستوى بينهما، أدى إلى إيجاد مسارات تفاوضية برعاية الطرفين، أبرزهما مسار أستانة واتفاق خفض التصعيد الناجم عنه، ومسار سوتشي الذي نجم عنه اللجنة الدستورية، وقبلت الأطراف السورية به بضغط روسي تركي. وقد يجعل هذا الاتفاق من تركيا أحد أهم الأطراف الفاعلة في ليبيا، خصوصا بعد إعلان وزير الداخلية في حكومة الوفاق الليبية، فتحي باش آغا، أن "خيار طلب إرسال جنود أتراك إلى ليبيا وارد في أي وقت، وقد يكون قريبا، وأن الدعم التركي قد يتعدّى العمل البري، ويشمل العمل الجوي"، وتصريح الرئيس التركي، أردوغان، بأن "حفتر زعيم غير شرعي".
وبالتالي، قد يؤسس التنسيق الروسي التركي عالي المستوى في الملف السوري لتنسيقٍ مشابه
في الملف الليبي. وهناك مؤشّرات عديدة على إمكانية ذلك، فقد أعلن الكرملين أن بوتين وأردوغان بحثا، في اتصال هاتفي، "القضايا المتعلقة بالتصعيد المستمر للنزاع العسكري في ليبيا"، وأضاف بيان الكرملين أن الرئيسين، الروسي والتركي، شدّدا على "الاستعداد للإسهام في ترتيب الاتصالات بين الأطراف الليبية". كما اتفقا على "تكثيف الاتصالات الروسية التركية على مستويات مختلفة".
هذه مؤشّرات على إمكانية إحداث "أستانة ليبي" على شاكلة "أستانة السوري". ولكن كيف يمكن ذلك فيما يرفض عبد الفتاح السيسي الاتفاق؟ يلاحظ أن الأخير استشهد بالحالة السورية وطرحها مثالا عند حديثه عن الوضع في ليبيا، وطالب بما سماها "عودة الدولة الوطنية" إلى كل من سورية وليبيا. وبربط هذا التصريح بما أكّدته مصادر دبلوماسية غربية رفيعة المستوى لمسؤولين ليبيين، أن "مداولات لقاء برلين الخاص بليبيا مرت بسلاسة غير طبيعية بين الجانب المصري والتركي"، فذلك قد يعطي مؤشراً على أن تصريحات السيسي ربما تكون للاستهلاك الإعلامي، ومنعاً للحرج أمام حلفائِهِ، وخوفاً من انتهاء تدفق الرز إليه.