هل كان قرار التنحي مغامرة محسوبة؟ (2/2)

هل كان قرار التنحي مغامرة محسوبة؟ (2/2)

10 يونيو 2020
+ الخط -
على الجانب الآخر، ثمة شهادات منشورة تقول إن ما حدث في يومي 9 و 10 يونيو 1967 كان مدبرا من قِبل قادة الاتحاد الاشتراكي. مثلا أحد رموز الإخوان المستشار «علي جريشة» يحكي أنه كان في السجن، وقال له سجان إنه تعبان جدًّا لأنهم أعطوه ملابس مدنية وقالوا له أن يشترك في مظاهرات مدبرة. الفريق عبد المحسن مرتجى يؤكد ذلك أيضًا، ولكن رأيه كان بناء على انطباع وليس مُستنِدا إلى معلومات، هناك حديث عن قيام الاتحاد الاشتراكي بتوفير أتوبيسات في اليوم الثاني من المظاهرات، وليس في اليوم الأول.

حين سألت الكاتب الكبير محمد عودة ونقلت له هذا الكلام لكي يعلق عليه أجاب بحماس شديد: «مين المخرج العظيم اللي هيطلّع الشعب المصري كده؟ طب هل الاتحاد الاشتراكي هو اللي طلّع برضه الشعب الجزائري والتونسي واليمني في مظاهرات ضد التنحي؟ هل هو اللي أقنع أكبر معلق سياسي في الغرب (دويتشر)إنه يقول: لأول مرة يخرج شعب مباشرة ليصنع التاريخ بنفسه وليعيد زعيما مهزوما؟ أنا يوم التنحي خرجت في هذه المظاهرات ورأيت شرائح عمري ما شفتها في حياتي. في الدقي والزمالك، الستات خرجوا بهدوم البيت، ببساطة ودون أي مبالغة، عبد الناصر كان يمثل الاستقرار، والناس بيقولوا له إحنا عارفين إنك غلطت، ولكن إنت القائد اللي إحنا بنثق فيه ونقف معاه ساعة المحنة».

من أهم الشهادات التي تثبت براءة المظاهرات من التدبير، شهادة حسن طلعت مدير المباحث العامة الذي يكشف في مذكراته أنه فوجئ بأمر المظاهرات، ولأن لديه أوامر بقمع أي مظاهرة بغض النظر عن ما تتظاهر من أجله، شعر بالحيرة وحاول الرجوع إلى رئيسه المباشر وزير الداخلية شعراوي جمعة، فرفض شعراوي أن يرد عليه، كعادة المسئولين في لحظات الأزمات، ولذلك اتخذ حسن طلعت بمبادرة فردية قرار عدم الاصطدام بالمظاهرات، ولولا ذلك لحدثت كارثة محققة، خاصة أن المئات من مسئولي الأمن الذين يرفعون على الدوام شعار «سلومة الأقرع ما يعرفش أبوه ولا أمه»، كانوا يتصلون به ليسألوا في إلحاح عن الطريقة التي سيتعاملون بها مع المظاهرات.


في تلك الفترة أيضًا كان الدكتور حسين كامل بهاء الدين، الذي ظل لسنوات طويلة وزير تعليم حسني مبارك، قائدا لمنظمة الشباب التي أنشأها عبد الناصر لتكون ذراعه السياسية وسط الشباب، وفور إعلان خطاب التنحي، ذهب إلى مكتب المعلومات المواجه لبيت عبد الناصر، وكان في حالة عصبية شديدة، وقال بصوت عالٍ لموظفي المكتب أن 30 ألف شاب من أعضاء منظمة الشباب مستعدون للزحف على بيت عبد الناصر لإثنائه عن قرار التنحي، وهو تهديد لو أطلقه في ظروف أخرى، لكان مرميًّا في زنزانة انفرادية في السجن الحربي، لكنه تهديد يكشف عن عدم وجود تواصل قيادي معه للأمر بإخراج الشباب، وإلا لكان قد فعل ذلك فورا قبل التلويح به.

خلال بحثي في الكتب والمذكرات التي تناولت تلك الفترة، فوجئت بأن المؤرخ الدكتور عبد العظيم رمضان المعروف بعدائه الشديد للناصرية، يرد بقوة على اتهام مظاهرات التنحي بأنها كانت مدبرة، ويقول في كتابه «تحطيم الآلهة» إن ذلك الاتهام مهين جدًّا للشعب المصري، حيث يصوره أنه شعب يساق كالأغنام فقط، نافيا أن يكون الاتحاد الاشتراكي قادرا على تدبير مظاهرات ضخمة كهذه، لأنه في الواقع لم يكن يتمتع بشعبية بين الجماهير تمكنه من أداء هذا الدور الضخم، وحين تمت الإطاحة بقياداته في مايو 1971، لم يستطيعوا إخراج تلميذ واحد في مدرسة لمساندتهم ضد السادات.

من ناحية أخرى، لم يكن غريبا أن أجد في صحف اليوم التالي لمظاهرات التنحي سيلا من المقالات التي ترفض القرار وتناشد عبد الناصر في الرجوع عنه، لكن ما لفت انتباهي هو بعض ردود الأفعال لأشخاص عرفوا فيما بعد بمهاجمة عبد الناصر بشراسة، ولم يذكر أحد منهم موقفه عقب التنحي، ولو على سبيل المراجعة الذاتية. خذ عندك مثلا موسى صبري الذي كتب يصف الجماهير التي شاركت في مظاهرات التنحي بأنها «جماهير شاء لها القدر أن تعيش لأول مرة في تاريخ مصر منحة السماء لها في حاكم مصري ابن مصري». وكتب أنيس منصور يسأل: «كيف للراعي أن يتخلى عن رعيته المؤمنة به؟». وكتب جلال دويدار ـ الصحفي المؤيد لمبارك فيما بعد ـ يعلن «أنه حين كان يعيش في الخارج لم يكن مصريا ولا عربيا بل كان يحمل جنسية ناصر». وسبحان مغير الأحوال من حال إلى حال.

مغامرة محسوبة
لكن إذا كان هناك شِبه اتفاق بين معاصري الفترة برغم اختلافاتهم السياسية، على أن مظاهرات التنحي لم تكن مدبرة، فلن تجد نفس الاتفاق في الإجابة عن سؤال: «هل كان تنحي عبد الناصر مغامرة محسوبة؟»، حيث سنجد شهادات عديدة تؤكد أن التنحي كان مغامرة محسوبة، لأن عبد الناصر وهيكل كانا يدركان تعقيد الوضع، ويتوقعان رد فعل الجماهير، ولذلك فقد أحسنَا اختيار كلمات خطاب التنحي بذكاء شديد. هذا ما يؤكده منير حافظ الرجل الثاني في مكتب سامي شرف الذي يؤكد في شهادته للتاريخ بأن ما حدث كان مغامرة محسوبة، «بدليل أن خطاب التنحي الذي ألقاه عبد الناصر، بعد أن شرح ظروف النكسة تقدم ببرنامج عمل للمرحلة القادمة، والذي يتنحى لا يُعقل أن يضع لخلفه برنامج العمل الذي يسير عليه، كما أن نص الخطاب لم يقطع بمسئولية عبد الناصر بما حدث، فقد ذكر أنه على استعداد لأن يتحمل المسئولية، ولم يقل إنه يتحمل المسئولية بالفعل، وهذا يعني أن عبد الناصر يريد أن يقول إن آخرين كانوا وراء ما حدث ولكنه مستعد لأن يتحمل عنهم المسئولية أمام الشعب، كذلك فإن اختيار عبد الناصر لزكريا محيي الدين خلفا له كان مناورة؛ لأن الاتفاق بينه وبين عامر كان على أن يتسلم شمس بدران الحكم، لكن عبد الناصر أدرك أنه لو اختار شمس فإن شمس سيتولى الحكم على الفور لقوة مجموعته العسكرية».

إذن فقد خاض عبد الناصر هذه المغامرة، المحسوبة في تحليل منير حافظ، وهو يعلم أن إعلان التنحي له واحدة من نتيجتين لا ثالثة لهما، فإما أن تقبل الجماهير تنحّيه، وينتهي به الأمر إلى زاوية مهملة من زوايا التاريخ كزعيم مهزوم، أو أن تتشبث به الجماهير فيبقى ليتحمل تبعات النكسة. وقد تحققت أهداف تجربة التنحي كلها بالفعل، إذ لم يكن عبد الناصر يتصور أن الشعب سيخذله.


عبد العظيم رمضان وبعد رفضه لكون المظاهرات مدبرة، يرى أن التنحي نفسه كان عبارة عن سيناريو شديد الإتقان، معتبرا أنه «سيناريو من صُنع هيكل بالدرجة الأولى، وليس من صُنع عبد الناصر، لأن مثل هذا التخطيط يحتاج لخبرة بفن التعامل مع الجماهير وكتابة خبير سياسي يستطيع التفرقة بين تعبير «تحمل المسئولية» وتعبير «الاستعداد لتحمل المسئولية»، وإن كان هذا بطبيعة الحال لا ينفي إدراك عبد الناصر لكل هذه التلميحات والإيحاءات وموافقته عليها، خاصة وأنه كان يشعر في داخله بمسئولية عامر عن النكسة، لذا كان يتوق إلى فرصة أخرى يمنحه إياها الشعب ليتخلص من سيطرة عامر، ولكنه لم يعول كثيرًا على هذا الأمل». ورغم أن خطاب التنحي كما يؤكد رمضان كان حافلا بالأكاذيب الضخمة والخديعة، منها عبارة «العدو الذي كنا نتوقعه من الشرق والشمال جاء من الغرب»، بينما الصحيح وفقا لشهادة عبد المنعم رياض أن الطائرات الإسرائيلية جاءت من الشرق. كذلك فقد تم إخفاء أي إشارة إلى أخطاء القيادة العسكرية المصرية، وتم الحديث عن «قتال الجيش السوري قتالا بطوليا»، وهو ما لم يكن صحيحا. ومعنى ذلك في رأي عبد العظيم رمضان أن الحقائق كانت غائبة تمامًا عن ذهن الشعب المصري، حيث اتخذت هبَّته العفوية مساء 9 يونية شكل التمسك بقيادة عبد الناصر، بعد أن كان يتجه في صبيحة ذلك اليوم إلى محاسبتها، ولذلك فهذا الشعب هو الذي هب مرة أخرى في فبراير 68 احتجاجا على الأحكام التي صدرت ضد قادة الطيران، وهو ما يؤكد أن تصرف الشعب المصري تم في إطار جهله بحقائق ما يجري، ولذلك فربما كانت حسابات الشعب المصري في مساء 9 يونية والتي بناها على غريزته المجردة أصدق حكما من أية حسابات تفرضها الحقائق، فلو أنه خذل عبد الناصر في ذلك اليوم لارتكب أكبر الأخطاء في تاريخه، ليس فقط لأنه يكون قد حقق رغبة الأعداء في التمتع بانتصارهم كاملا، وإنما لأنه يكون قد حرم نفسه من القيادة الوحيدة التي كانت وقتها قادرة على انتشاله من هذه الهزيمة.

يبقى أن الشعب المصري في نهاية المطاف، لم يفوت الفرصة لوضع لمسة عبثية على الأمر برمته، بعد أن اطمأن إلى عودة عبد الناصر إلى الحكم، ليتحول شعار «لا تتنحى، لا تتنحى»، إلى شعار ساخر هو «*** ***، لا تتنحى»، والذي ربما كان يعبر برغم بذاءته، عن معنى شديد الصدق والواقعية، وهو رفض الشعب لأن يتخلى عن مسئولية الهزيمة من كان سببا في وقوعها، وأن عليه أن يبقى ليُصلح ما أفسدت يداه. وحين أدرك الشعب المصري صدق عبد الناصر في محو آثار الهزيمة، كما بدا عقب الإطاحة بعبد الحكيم عامر ورجاله، وإعادة بناء الجيش المصري، تجاوز الناس لحظة الهزيمة التي كان يمكن أن تشل حركتهم لسنين، وبدأت ملحمة حرب الاستنزاف التي تم تغييب الكثير من بطولاتها حتى الآن، لكن خروجهم التالي في المظاهرات التي أعقبت الأحكام التي صدرت ضد قادة الطيران لم يكن تأييدا ولا تهليلا، بل كان غضبا من تحميل الهزيمة لمن ليس مسئولا عنها، وهو ما أزعج عبد الناصر كثيرًا، وأشعره أن لحظة «لا تتنحى»، كانت مجرد لحظة استثنائية خرجت في توقيت حرج، ولن تتكرر ثانية، ولذلك فقد تعامل مع مظاهرات الطلبة بالذات بعصبية شديدة، وصلت إلى حد أنه طلب في لحظة انفعال ضرب تلك المظاهرات بالطيران، طبقا لشهادة وثّقها الدكتور هشام السلاموني في كتابه «الجيل الذي واجه عبد الناصر والسادات». ومن يدري، فربما كان عبد الناصر في تلك اللحظة بالذات، يفكر في أن غضب المصريين على أي هزيمة قادمة، ربما انتهى بمصير الشنق في ميدان التحرير.

...

فصل من كتابي (فيتامينات للذاكرة) الذي تصدر طبعته الجديدة قريباً بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.