الساعات الثماني والأربعون الأخيرة، عاشها العالم وكأنه على أبواب حرب عالمية ثالثة: "روسيا تغزو أوكرانيا"، "اجتياح القوات الروسية لأوكرانيا"، "اجتماع عاجل لمجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني" و"اجتماع طارئ لمجلس الأمن"، استنفار في الأوساط الإعلامية لتغطية الأحداث. فهل هناك ما يستحق ذلك بالفعل؟ إلى لا شيء، انتهت الجلسة الطارئة لمجلس الأمن الدولي، التي انعقدت بناء على طلب أوكرانيا. فقد اجتمع ممثلو الدول الأعضاء، بعد إعلان الرئيس الأوكراني، بيوتر بوروشينكو غزو القوات الروسية لأراضي بلاده، من دون أن يتمكنوا من الوصول إلى قرار بسبب عجز المجلس عن إثبات دخول القوات الروسية إلى أراضي الدولة الجارة بالفعل. فقد قال جيفري فيلتمان، نائب الأمين العام للأمم المتحدة إنه "في اللحظة الراهنة، لا تستطيع الأمم المتحدة التحقق، بصورة مستقلة، من تأكيدات كييف دخول القوات الروسية". ولكنه أضاف:" لا يمكننا تجاهل التقارير المقلقة للغاية عن التدخل العسكري الروسي في هذه الموجة الجديدة من التصعيد. وإذا ما كانت صحيحة، فإن هذه الأعمال هي انتهاك مباشر للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة".
الكلام الذي نقلته عنه قناة "إن تي في" الروسية. ألغى الرئيس الأوكراني، بيوتر بوروشينكو، زيارته إلى تركيا، ودعا، في 28 أغسطس/آب، إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن والدفاع الأوكراني، بسبب الوضع في منطقة دونيتسك "لأنه قد تم إدخال قوات روسية إلى أوكرانيا"، على حد تعبيره، داعياً مجلس الأمن الدولي إلى عقد جلسة طارئة لمعالجة الأمر. ولم يكتفِ الرئيس الأوكراني بهذا التصريح، إذ نقلت قناة "4 تي في" قوله أمام مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني أنه "من أجل إنقاذ عصابات الإرهابيين، دخلت قوافل عتاد ثقيل من الجانب الروسي، ودفعة كبيرة من الأسلحة ومن جنود الوحدات النظامية الروسية، عبر ذلك الجزء من الحدود الخارج عن سيطرتنا".
وفي دعم لتصريحات زعيم كييف، أكد رئيس وزرائه، أرسيني ياتسينيوك،ً واقعة "دخول واضح، وبشكل مفتوح للجيش الروسي إلى أوكرانيا"، وحدّد أن "القوات الروسية تتموقع بالقرب من مدينة ماريوبول". لكن مندوب روسيا الدائم لدى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، أندريه كيلين، سارع إلى نفي مشاركة جنود روس في أعمال عسكرية في أوكرانيا أو إرسال عتاد حربي إلى هناك، قائلاً: "لقد أعلنا بوضوح أن الجنود الروس لا يشاركون في أعمال عسكرية في أوكرانيا، ولا نقوم بتوريد أي عتاد عسكري إلى هناك". إلا أن رئيس وزراء أوكرانيا عاد، في اليوم التالي (أمس الجمعة)، لتأكيد أن الجيش الروسي يشارك في القتال في أوكرانيا. فقد نقلت صحيفة "فزغلاد" قوله "نواجه الإرهابيين الروس، ولكن بالنسبة إلى الجيش الروسي، فإننا نعتقد أنه يحارب بشكل دقيق عن طريق صواريخه ومدفعيته"، معترفاً بعجز الجيش الأوكراني عن مواجهته.
في المقابل، وبموازاة نشاط روسيا في أروقة مجلس الأمن ومع بعض شركائها الأوروبيين، لدحض اتهامات كييف، ووضعها في سياق "الهروب من الاستحقاقات" الجديدة التي يفرضها تقدم قوات جمهورية دونيتسك الشعبية على الأرض، وفي خطوة للتهدئة، دعا الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ممثلي "المقاومة" (الانفصاليين) في شرق أوكرانيا إلى فتح ممر إنساني للجنود الأوكرانيين المحاصرين "من أجل تفادي سقوط ضحايا عبثاً، ولتمكين العسكريين من مغادرة منطقة العمليات القتالية من دون أية عوائق، ومن أجل لم شمل عائلاتهم وإعادتهم إلى أمهاتهم وزوجاتهم وأطفالهم، ولتقديم المساعدة الطبية العاجلة للجرحى نتيجة العملية العسكرية". ولا يخفى أن هذه الدعوة تتطابق مع وعد كانت أخذته على نفسها قيادة جمهورية دونيتسك الشعبية المعلنة من جانب واحد، قبيل قمة مينسك بين الرئيسين الروسي والأوكراني.
يأتي حديث كييف عن غزو روسي على خلفية أزمة برلمانية تعيشها أوكرانيا. ففي 27 أغسطس/آب الجاري، وقع بوروشينكو أمراً بحل البرلمان، وأعلن عن انتخابات مبكرة في 26 أكتوبر/تشرين الأول؛ ويأتي، ثانياً، على خلفية هزائم عسكرية متتالية تلحقها القوات الانفصالية بالجيش الأوكراني القريب من التفكك إلى ميليشات بعضها لا يأتمر بأمر المركز. فعلى صعيد الخسائر، ومنذ بدء الهجوم المعاكس الذي تشنه قوات جمهورية دونيتسك الشعبية وقع ما يزيد عن 750 جندياً أوكرانياً، بين قتيل وأسير وجريح.
كما أعلن الانفصاليون، يوم 26 أغسطس/آب الجاري عن محاصرة عدد من الكتائب الأوكرانية مدن دونباس وكريفباس وميروتفوريتس وفولين ودنيبر. وأقرّ بوروشينكو بتكبد قواته خسائر كبيرة. كما يأتي، ثالثاً، على خلفية وصول قوات الانفصاليين إلى بحر آزوف، في نقلة استراتيجية مفاجئة. فقد تمكنوا، من دون مقاومة تقريباً، من احتلال مدينة نوفوآزوفسك الواقعة على بعد 40 كيلومتراً من مدينة ماريوبول. علماً بأن هذه المدينة تقع على شاطئ بحر آزوف. ووفقاً لوكالة "ريا نوفوستي"، فقد اقرّت القيادة الأوكرانية بذلك، خلال اجتماع مجلس الأمن القومي والدفاع. ويأتي، رابعاً، على خلفية الحديث عن توسيع "روسيا الجديدة" (نوفوروسيا) نحو مشروع "بردنيستروفيه الكبرى"، أي ضم هذا الإقليم المولدوفي المتنازع عليه والمدعوم روسيّاً إلى الأقاليم الأوكرانية التي يبدو أنها ستنفصل بحكم معطيات الواقع عن أوكرانيا. أما، خامساً، فيأتي ذلك على خلفية إقرار المهتمين بدعم تتلقاه القوى الانفصالية من روسيا مع سيطرة المقاتلين على مسافة كبيرة من الحدود الروسية الأوكرانية، التي لا مصلحة لأحد بضبطها. فهناك مصلحة حتى لكييف في انفتاح الحدود لتأكيد تدخل موسكو وتأليب الغرب ضدها.
ويأتي، أخيراً، على خلفية معرفة بوروشينكو بعجز جيشه عن استعادة إقليم دونباس، وبأنّ حكمه حتى لنصف أوكرانيا لن يكون سهلاً ولا مستقراً، ذلك أن خصومه السياسيين سينسبون تفكك أوكرانيا إلى سياساته، وليس فقط إلى التدخل الروسي. لكن ورقة مجلس الأمن أضعف من أن تغير شيئاً في واقع البلاد التي تتنازعها مصالح الأقوياء، وفي وضع حاكميها، وروسيا ليست بحاجة إلى غزو أوكرانيا ما دامت تتحقق مصالحها من دون ذلك، فضلاً عن غياب مصلحتها في الانجرار إلى حرب مباشرة، هي أعلم بفداحة انعكاساتها الداخلية.