تعتبر كرة القدم لعبة مشاعر إنسانية، يختلط بها الحزن والفرح، الشغف والاستسلام، التعاطف والشماتة، لكن مع اقتحام الماديات اللعبة، ضربت بالمشاعر عرض الحائط، وغابت الإنسانية في عالم التجارة، ليجبر اللاعب على التحول الى ماكينة.
"رونالدو يموت إدموندو رونالدو يموت"، هكذا كانت تدوي صرخات روبرتو كارلوس، في ممر غرف الفندق الذي يقيم فيه منتخب البرازيل عشية المباراة النهائية لبطولة كأس العالم بفرنسا 1998 يوم الـ12 من شهر يوليو/تموز.
يقول إدموندو، "استيقظت مفزوعاً على صرخات كارلوس، توجهت الى رونالدو، فوجدته في حالة مزرية، كان يصدم فخذيه بذراعيه، وكانت تخرج من فمه رغوة، ويصدر أصواتا غريبة، كما لو كان يريد التنفس، لكنه عاجز عن فعل ذلك، خرجت مسرعاً فاصطدمت بسيزار سامبايو، الذي كان يهرول نحونا، عدنا الى رونالدو مع دوريفا، وأخرجنا لسانه بأيدينا قبل أن يبتلعه، وبعد ثوان وصل الأطباء".
ويلخص رونالدو، ما حدث "خسرت كأس العالم، لكن كسبت حياتي، هذا بمثابة كأس آخر".
ويكشف طبيب المنتخب البرازيلي جواكيم دا ماتا، بعد 15 عاماً من الواقعة "رفضت في البداية أن يلعب رونالدو النهائي، لقد أصيب بتشنجات ونقل الى المستشفى قبل سبع ساعات من المباراة، والسماح بمشاركته كان أسوأ قرار في حياتي".
الجميع كان على علم بالكارثة باستثناء رونالدو، الذي كما لو كان قد فقد الذاكرة، والمدرب ماريو زاجالو، الذي لم يعرف ما حدث إلا بعد ثلاث ساعات، حسب الصحافة البرازيلية، فكان يعتقد أن الصرخات من مشجعين حول الفندق.
ويروي (الظاهرة) "بعد أن استيقظت كان جسدي يؤلمني بشدة ولم أتذكر أي شيء، حكى الجميع لي ما حدث، أصابني رعب شديد، قال لي الطبيب، إنني أصبت بتشنجات لفترة تراوحت بين 30 و40 ثانية، نقلت الى المستشفى، ولاحقاً زال الألم شيئاً فشيئاً، هذه المشكلة جعلتني أصر أكثر على اللعب ومساعدة المنتخب، القرار كان قراري، لكنني اتخذته وأنا مرعوب".
ويعترف الطبيب دا ماتا، بأن رونالدو، ابن الـ 21 عاماً آنذاك، رغم إعيائه الشديد، كان في سيارة الإسعاف يطلب من السائق الإسراع لكي يتحضر للمباراة، وألا يمنح الفرصة لإدموندو، للعب مكانه.
في حين قيل: إن رونالدو، عانى من نوبة صرع عشية المباراة، وظل هذا الأمر طي الكتمان دون علم الصحافة، لكن التأثير كان كبيراً على لاعبي السامبا في الملعب لمرض نجمهم الأبرز، فلعبوا المباراة من دون روح، وخسروا الكأس أمام زيدان ومنتخبه، (3 – 0).
يقول سامبايو "في المباراة النهائية كلما كان يلمس رونالدو، الكرة كنا نشعر بالقلق على حياته، لقد شتت هذا تركيزنا كل الوقت، ساد إحساس عام بين اللاعبين بالخوف من أن يموت في الملعب".
تم الاتفاق بين الطبيبين ليديو توليدو ودا ماتا، والمدرب زاجالو، والمنسق الفني زيكو، والمساعد الفني أميريكو فاريا، ورئيس الاتحاد ريكاردو تيكسيرا، واتخذ قرار بالإجماع بمشاركة رونالدو، رغم سوء حالته الصحية.
منح الطبيب توليد الضوء الأخضر لرونالدو، بعد أن شخّص التشنجات بأنها نتيجة "الضغط العصبي" على اللاعب قبل النهائي، لكن الطبيب الإيطالي برونو كارو، فجر مفاجأة من العيار الثقيل، وأكد بأن رونالدو، تعرض لـ"أزمة قلبية" وليس مجرد تشنجات بسيطة، وذلك بعد أن فحص حالته مع طبيب فريق إنتر ميلانو بييرو فولبي، حيث كان قلبه يدق 18 مرة في الدقيقة فقط.
وادعي كارو، أن أطباء المنتخب البرازيلي قللوا من شأن مرض رونالدو، وأعطوه دواءً يحمل مفعولاً قوياً، هو نفسه الذي تسبب في انتحار نجمة هوليوود مارلين مونرو، وهذا الخطأ كاد يتسبب في كارثة في أمسية سان دوني بستاد دو فرانس، وهو ما يفسر ثقل حركة رونالدو، حتى بعد المباراة.
فُتح باب التحقيق مع توليدو ودا ماتا، من المجلس الإقليمي الطبي في البرازيل لمعرفة أسباب السماح لرونالدو باللعب، وكان التبرير "من الصعب استبعاد أفضل لاعب في العالم من نهائي المونديال" ليظهر تلميحاً الى وجود "ضغوط" وراء الأمر من أجل مصالح معينة.
لكن ترى ما الذي جعل الجهازين الفني والطبي والاتحاد البرازيلي يخاطرون بصحة رونالدو من أجل مباراة مهما كانت أهميتها؟
ظهر الجواب في تقارير صحافية مستندة الى روايات شهود عيان، تؤكد بأن رونالدو، أجبر على اللعب بضغط من شركة (نايك) الشهيرة للملابس الرياضية، حيث كانت قد وقعت عقداً مع اللاعب والاتحاد البرازيلي يلزمه المشاركة في جميع مباريات المونديال مهما كانت الظروف.
لكن تلك الرواية تنصل منها الجميع، بمن فيهم رونالدو وزجالو، غير أن نكرانهم لها لا يعني أنها ليست حقيقية، وربما النكران كان بسبب استمرار الضغوط.
وقع رونالدو، عقد رعاية مدى الحياة مع "نايكي" في يناير 1997، وهو ما لم تفعله الشركة العالمية من قبل سوى مع أسطورة كرة السلة مايكل جوردن، وتقاضى الظاهرة البرازيلي ما بين 25 و30 مليون يورو سنويّاً.
وقبل توقيع رونالدو بفترة وجيزة، وقعت "نايكي" مع الاتحاد البرازيلي عقد رعاية بـ300 مليون يورو لمدة 10 سنوات، من أبرز شروطه مشاركة رونالدو، في جميع مباريات "السيليساو"، وإن لم يحدث ذلك لن تجدد "نايكي" العقد مع الاتحاد.
جهزت أحذية خاصة لرونالدو، أفضل لاعب في العالم وأوروبا في 1996 و1997 ، حملت شعار "آر 9" ، وعرف بالحذاء الرياضي "الأخف وزنا" في العالم ليلائم أسرع لاعب آنذاك، وكان أول من ارتدي حذاءً ملوناً وغير تقليدي.
كان رونالدو، اللاعب الأكثر مبيعاً للقمصان والأحذية، مما جعله بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهباً لـ"نايكي".
بعد معرفة مرض رونالدو، أشيع أن (نايكي) أجبرت اللاعب على المشاركة أمام فرنسا، وهو ما أنكرته الشركة تماماً في بيان رسمي، مشيرة الى أن حياة رونالدو فوق كل اعتبار، وأن قرار إشراكه كان في يد زاجالو واللاعب نفسه الذي قرر خوض أهم مباراة في حياته.
واعترف زاجالو "أنا الذي تمسكت بمشاركة رونالدو، إنه ظاهرة عالمية، حتى لو كان بـ60% من طاقته فإنه قادر على اللعب".
لكن اللاعب إدموندو فضح الأمر، وكان الوحيد الذي تجرأ على كشف جريمة (نايكي) حين أكد بأنه تم إبلاغه بأنه سيشترك أساسيّاً في النهائي أمام فرنسا، لكن رونالدو تمسك باللعب رغم مرضه، والمفاجأة أنه حظي بدعم جميع المدربين والأطباء والإداريين، وذلك انصياعاً لضغوط الشركة، وخوفاً من ضياع العقود التجارية مع الاتحاد البرازيلي.
وأوضح إدموندو "كان يوجد مندوب من "نايكي" معنا في المعسكر 24 ساعة، كما لو كان لاعباً أو إدارياً أو مدرباً، كنّا متعاقدين من قبل مع شركتي (أومبرو) و(توبير) ولكن لم أشاهد أمراً كهذا في حياتي".
انتشرت شائعات أخرى تبرر سوء حالة رونالدو، في المباراة النهائية وظهوره كالشبح، للتغطية على شائعات "نايكي".
في حين كانت الشائعة الأشهر خيانة رفيقته العاطفية، عارضة الأزياء الشقراء الحسناء سوسانا وارنر، الوجه النسائي الأبرز في المدرجات الفرنسية، حيث قيل إنها كانت على علاقة برجل آخر، مستغلة انشغال رونالدو بالتدريب واللعب، وحين علم هداف "السيليساو" بذلك انهار نفسيّاً.
لكن والدا رونالدو، بددا تلك الشكوك، وأكدا بأن تلك الشائعات حتى لو صدقت فعلاً، فإن لاعباً محترفاً كابنهم لا يتأثر عاطفيّاً لهذه الدرجة، سرت إشاعة أخرى بأن رونالدو كان مريضاً وهو مع فريقه إنتر ميلانو، قبل الانضمام الى المنتخب، لكن رئيس الإنتر ماسيمو موراتي، وأطباء النيراتزوري نفوا ذلك تماماً.
وانتشرت شائعة أخرى بأن رونالدو تعرض للتسمم الغذائي، وارتبط الأمر بنظرية المؤامرة، حيث كان رونالدو، أحد أبرز نجوم البطولة، وقدم مباريات رائعة باستثناء النهائي، كان الهجوم شديداً والانتقادات عنيفة على رونالدو، بسبب الأداء المخيب له في النهائي، قبل أن تكتشف الصحف حقيقة مرضه، ليكسب تعاطف الجميع وتزول الانتقادات.
بعد المباراة عاد رونالدو، ليتصرف كطفل، لم يكن ينام سوى في أحضان والده نيليو وهو يبكي من الضغوط، ويأسف على ضياع الكأس، كما أرعبته فكرة أنه كان على وشك مفارقة الحياة.
لم يتم العثور على دليل فعلي يورط "نايكي" في إشراك رونالدو رغماً عنه، لكن الصورة التي التقطت للاعب وهو يربط حذاء نايك حول رقبته بعد تسلم الميدالية الفضية عقب الخسارة بددت شكوك الكثيرين، فاللاعب في أسوأ حالاته يقوم بالترويج للحذاء.
بعيداً عن الكواليس والمؤامرات، تناسى رونالدو محنته وحقق حلمه في رفع الكأس بعد أربعة أعوام في كوريا الجنوبية واليابان، وبعد أربعة أعوام أخرى أصبح الهداف التاريخي للمونديال وخلد أسطورته بين أعظم عظماء اللعبة.