هل توقف التنسيق الأمني أم تغيّر مفهومه؟

هل توقف التنسيق الأمني أم تغيّر مفهومه؟

09 يونيو 2020
+ الخط -
كان لافتاً موقف دولة الاحتلال الإسرائيلي من إعلان السلطة الوطنية الفلسطينية أنها في حِلٍّ من جميع الاتفاقات معها، ووقف كلَّ أشكال التواصل مع الاحتلال، بما فيها "التنسيق الأمني"، إذ لم يُظهِر قادة الاحتلال، حينها، ردّةَ الفعل المتوقَّعة على هذا النوع من التحوّل في طبيعة السلطة. وكان يمكن فهم ذلك التلقّي الهادئ، نسبيّاً، من جانب الاحتلال، بأنه انتظار للتطبيق العملي لذلك الإعلان، أو أنه، أيضاً، فسْحٌ للمجال أمام السلطة الفلسطينية؛ كي تُظْهر ردّاً لا بدّ منه، على الخطوة الخطرة، جيوسياسياً، وهي ضمُّ الأغوار وشمال البحر الميت، بالإضافة إلى المستوطنات في الضفة الغربية والقدس، أو فرض سيادة الاحتلال عليها. وهو ما يعني القضاء العملي، من جانب واحد، على فرص قيام دولة فلسطينية في حدود الرابع من يونيو/ حزيران، فضلاً عن كونه يحرم الفلسطينيين خيرة أراضي الضفة الغربية التي توصف بأنها سلّة غذاء الفلسطينيين.
لكن حادثة إحباط أجهزة الأمن الفلسطينية، قبل أيام، عملية كان من المقرَّر أن تستهدف قوات الاحتلال التي تتمركز في ضواحي مدينة جنين، بحسب صحيفة يديعوت أحرونوت، أعاد التساؤل بشأن ماهيَّة الردّ الفلسطيني على تلك الاجتراءات الصهيونية الأخطر، حديثاً، على القضية الفلسطينية، ومستقبلها. ذلك أنه صحيح أن السلطة الفلسطينية سلكت طرُقاً عدّة لمواجهة 
الضمّ الاحتلالي، ومنها السُّبُل القانونية الدولية، ولكن الإعلان عن وقف التنسيق، والتواصل مع الاحتلال، كان هو الردّ الأكثر حسماً، والأوقع أثراً، في ما يُرجى. علماً أن القيادة الفلسطينية حرصت على توضيح أنّ وقف التنسيق الأمني لا يعني الكفّ عن "محاربة الإرهاب"، وهو الأمر الذي تلتزمه السلطة الفلسطينية، من طرفها، بوصفها "دولةً" منخرطة في الجهد الدولي في محاربة الإرهاب. وهو الأمر الذي استخدمته السلطة من أدوات تأكيد ارتقائها إلى مصافّ الدول، حيث أصبح التعامل مع إسرائيل ندّياً، دولة مقابل دولة، ولم يعد مقبولاً أن يُعَدّ تعاملَ تبعية، وتعاون مباشر. وهو الأمر الذي أكّده الناطق بلسان المؤسسة الأمنية الفلسطينية، عدنان الضميري، بقوله، بعد أن نفى صحّة الحادثة الآنف ذكرها، كما روتها الصحف العبرية، إن "الدولة الفلسطينية في توقيع على اتفاقيات دولية ضد الإرهاب، ونحن لا نخشى ذلك؛ ونعتبر أنفسنا جزءاً من المنظومة الدولية والعربية في مواجهة الإرهاب". وأضاف: "هناك فرق بين التزام دولة فلسطين الدولي في مكافحة الإرهاب وأن يأتي الاحتلال ويقول إن الأجهزة الأمنية الفلسطينية قامت بكذا؛ خدمة للإسرائيليين". ومهما يكن، فإن هذه الأقوال تؤسِّس لمرحلة من التعاطي الفلسطيني الرسمي مع أعمال المقاومة، من دون استثناء.
وبغضّ النظر عن السياق الذي يوضع فيه إحباط العمليات المقاومة الموجَّهة ليس فقط إلى 
المدنيين الإسرائيليين، خارج الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، المستوطنين في أراضي الضفة الغربية المحتلة، وَفْق القانون الدولي، أو أنه كان حتى موجّهاً إلى قوات الاحتلال الصهيوني التي لا يصنّفها القانون الدولي إرهاباً، بل يعتبرها أعمالاً مشروعة، فقد تطوّعت السلطة الفلسطينية، من تلقاء نفسها، ووسّعت مفهوم الإرهاب الذي لا يزال يثير إشكالاتٍ على مستوى العالم؛ في تعريفه، وتطبيقاته؛ لتُقحِم فيه عمليات المقاومة المشروعة، ضد الاحتلال، وجنوده، ولكن المختلف أنها، أي السلطة، هي التي ستحاربه، وليس خدمة للاحتلال. فمن الناحية الجوهرية، لا تزال دولة الاحتلال، حتى بعد إعلان السلطة "وقف التنسيق" تستفيد، عمليّاً، من تلك الجهود الفلسطينية الذاتية التي تحبط أيَّ مساعٍ فلسطينيةٍ تستهدف الاحتلال، ولكن وقف التنسيق الشامل، وبالذات المدني، من المتوقّع أن يسبّب إرباكاتٍ في حياة الفلسطينيين أنفسهم، وذلك من دون أن تتوافر تدابير ناجزة تصلح لأن تكون بديلة لهذا الواقع الناشئ، بشكل مفاجئ.
وفي الحقيقة، أنّ دولة الاحتلال لا يهمها كثيراً، وقت الاضطرار، الطريقة التي تُوقف فيها العمليات المقاومة ضدها، أو آليَّات وقفها، بقدر ما يهمُّها أن تتضافر جهود الفلسطينيين مع جهودها، في محاربة المقاومة. ولعله لا يخفى أن السلطة الفلسطينية تبقى أقدر من أجهزة الأمن الاحتلالية على الحدّ من النشاطات الفلسطينية التي تستهدف الاحتلال، بما تملك من خصوصية التعايُش اليومي والقريب مع الناس، حيث لا يقابلها الفلسطينيون عادة بالارتياب والتوجُّس والحذر الذي يقابلون كلّ من يشتبهون بتعاونه مع الاحتلال، ممن يسمُّونهم "الجواسيس"، وهذا ما صرّح به الرئيس الفلسطيني، محمود عباس؛ أنّ المعلومات التي كانت توفّرها أجهزة السلطة لم تكن إسرائيل تحلم بالحصول عليها، لخطورتها، أو بالأحرى لصعوبة حصول الاحتلال عليها.
هذا التحوّل في موقف السلطة، بوصف المقاومة إرهاباً بالغ الخطورة، وطنيّاً وأخلاقيّاً، فقد كان يمكن تفهُّم الدعوة إلى المقاومة السلمية، أو حتى حصر المقاومة بالسلمية، ولكن إدانة المقاومة، 
ووصمها بالإرهاب، ثم التعهد، بل الانخراط العملي في محاربتها، ينتج دلالاتٍ جديدة عن معنى الاحتلال، وجنوده، هل هم مندرجون ضمن الأبرياء الذين يُستهدفون لتحقيق مآرب سياسية، كما التعريف السائد للإرهاب (؟!). ثم كيف يُصدِر فلسطينيٌّ حُكْمَ إدانة على فلسطيني آخر؛ لأنه يقاوم الاحتلال، بمَن فيهم جنودهم الإرهابيون الذين لا يتورَّعون عن قتل المدنيين الفلسطينيين العُزَّل، ولمّا تكد تجفّ بعد دماء الشاب المقدسي من ذوي الاحتياجات الخاصة، إياد الحلاق، الذي اعترف رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو باغتياله.
معنى هذا أن السلطة الفلسطينية تدين أيَّ فلسطيني ينخرط في عمل مقاومة، حتى لو كان من فصائل منظمة التحرير، ولو كان من حركة فتح نفسها التي يترأسها الرئيس أبو مازن، ولم نسمع أن حركة فتح تصف أعمال المقاومة بالإرهاب. ومهما كانت الذرائع، فإنّ هذا التحوُّل بالغ الغرابة، فالدولة الفلسطينية تحت الاحتلال لا تستحقُّ إفراغ العمل النضالي ضدَّ الاحتلال من مضمونه، بل إدانته، في حين أن الواجب تذكّر أنّ موجبات المقاومة لا تزال قائمة، وهي الاحتلال الذي يمعن تعمُّقاً، وتمدُّداً.