هل تقام الحدود بالشبهات أم تدرأ بالشبهات؟!

هل تقام الحدود بالشبهات أم تدرأ بالشبهات؟!

08 يناير 2018
+ الخط -
رغم مرور سبع سنوات على قيام ثورة 25 يناير في مصر، ما زال الحديث عن الثأر لدماء الشهداء يتكرر إلى اليوم..

في رأيي المتواضع إن أخطاء كثيرة قد ارتُكبت منذ قامت الثورة، لكن عدم الثأر للشهداء ليس من بينها! إذ رغم كونه من المؤكد أنه ما دام هناك قتيل فإن هناك قاتل، لكن إقامة الحدود لا تكون بالشبهات.

بداية نقرر أن من قتل معتديا ليس شهيدا، وقد أوجب الإسلام الدفاع عن النفس ضد أي معتد، وأن إقامة الحد تكون في حالة من قتل مظلوما، والذي أباح الله سبحانه وتعالى القصاص له، فقط إن تم التيقن من قاتله.

ودعونا نرجع بالزمن إلى الوراء لنتعلم من درس التاريخ.. عندما قُتل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، بويع سيدنا علي بن أبي طالب بالخلافة، ولم يستطع سيدنا علي أن يقيم الحد على أحد قصاصا لسيدنا عثمان لأنه لم يثبت لديه يقينا أن أحدا ما أو جماعة بعينها من قتل عثمان، وكان هذا مدعاة لمعاوية بن أبي سفيان للخروج على سيدنا علي بدعوى القصاص من قتلة عثمان، والذي كان بداية لفصل طويل من فصول البغي في الإسلام.


اعتبر معاوية نفسه وليّ الدم رغم أنه من أبناء عمومة عثمان، وليس ابن عمه من الدرجة الأولى، كما أن القتيل قد خلف أبناء ذكورا وجدوا أنفسهم على الهامش، وغيرهم قد تولى دم أبيهم. وهو لم يتجاوز أولياء الدم فقط، بل تجاوز ولي الأمر أيضا، وشكك في نزاهته؛ وكأن عليّاً كان يعرف القاتل يقينا ولم يقتص منه أو كأنه أفقه من علي!

ولسنا هنا بصدد مناقشة ما حدث من زاوية البغي والآثار التاريخية المترتبة على الفتنة الكبرى، ولكن لطرح الأمر من زاوية أخرى.

كان أمام ولي الأمر قتيل لا يعرف قاتله عينا، وأمامه كذلك غوغاء، يمسكون قميص القتيل وعليه دمه وبه يتاجرون، ويحرضون العامة على الثأر رغم أن القاتل غير متعين!

ما كان أسهل على سيدنا علي أن يقطع رقاب كل من كانوا بالدار وقت مقتل سيدنا عثمان من الثائرين عليه، وكان لو فعل قد أخرس ألسنة الفتنة الوليدة، وما بقيت للمتاجرين بدم عثمان حجة، وكان في هذا تعزيز لولايته وبثّ لمهابته، لكن ولأن ولي الأمر أفقه من كان على ظهر الأرض وقتها لم يفعل! لم يفعل لأنه علي، وأقضاكم علي.

عودة إلى واقعنا الذي لا يقل مرارة عن تاريخنا. بعد الثورة كان الثوريون والإخوان لا حديث لهم إلا عن القصاص للشهداء من أي أحد، وكأن غرضهم التشفي دون بينة من مبارك ومن نظام مبارك.

لطالما قلت وقتها أن فساد عهد مبارك شيء وإدانته بقتل المتظاهرين دون دليل شيء آخر. عن نفسي مقتنعة أن مبارك لو أصدر أوامر بالفعل بقتل المتظاهرين لم تكن الثورة لتنجح. الرجل كان رئيس مصر، وهي أعلى سلطة وقتها.

وإذا كان علي بن أبي طالب -وهو من هو- لم يقم الحد في المتهمين بقتل الخليفة وأحد المبشرين بالجنة لالتباس الأمر وعدم ثبوت الأدلة، فلماذا تلومون أي قاض يصدر الحكم بالبراءة على متهمين لم يتيقن من إدانتهم؟ هل من المفترض أن يشير أهالي القتلى إلى أشخاص بعينهم دون أدلة مدعين أنهم هم القتلة حتى يقام عليهم الحد؟! وكأن الحدود تقام بالشبهات!

المفترض أن الحدود تدرأ بالشبهات، ولو كانت لدى القاضي نسبة من الشك 1% لا يقام الحد شرعا، وإلى الآن ما زال القضاة يستخدمون هذا الأسلوب في صياغاتهم لحيثيات أحكامهم؛ يقولون: "لم يطمئن ضمير المحكمة". لكن هناك من يريد أن تقام الحدود واليقين لا تصل نسبته إلى تلك 1%، ليكون قد اقتص للشهداء!

دارت هذه الأفكار في رأسي الأيام الأخيرة بسبب اقتراب ذكرى الثورة، ثم بسبب إعدام نظام السيسي شبابا مشكوكا في اقترافهم إحدى الجرائم الإرهابية التي نسبت إليهم، والذين صدر الحكم بإعدامهم بسبب هذا الاتهام.

جاء الشك بعد أن دفع محاميهم بأن متهما في قضية إرهابية أخرى قد اعترف على نفسه أنه هو من دبر ونفذ الجريمة المنسوبة إليهم، لكن لم تستجب المحكمة وتلغي الحكم بإعدامهم رغم أن الاعتراف سيد الأدلة والرجل قد اعترف على نفسه!

العجيب أن تدور الأيام، ويأتي اليوم الذي يذوق فيه الإخوان ويلات تقفيل القضايا ودعاوى القصاص للشهداء، والذي كانوا من أكثر من نادى به بعد الثورة، فيختفي شباب في عمر الورود فجأة ودون سابق إنذار ليفاجأ أهاليهم بعد مدة أنهم مدانون بحوادث إرهابية حدثت بعد اختفائهم.

والمشكلة أننا لا نثق في أي تحريات من الشرطة المصرية أدت لاعتقال أي متهم في أي قضية، ولا نثق إن كانوا بالفعل قد اختفوا ليقوموا بتلك العمليات الإرهابية أو كانوا رهائن لدى الشرطة وتم استخدامهم بعد وقوع الجريمة، حتى لا تبقى قضايا معلقة لم يحاسب مرتكبوها، فيما يعرف في مصر باسم "تقفيل القضايا". كما أنه لا ثقة لدينا أيضًا في إجراءات القضاء العسكري التي حوكموا في ظلها.

كلنا ضد الإرهاب، ولكن لا لقتل بشر لا نثق في أنهم بالفعل مجرمون.

كان تمسك معاوية بضرورة القصاص لسيدنا عثمان سببا وذريعة لأول فتنة في تاريخ الإسلام، وما زلنا نقطف ثمارها العفنة إلى يومنا هذا. وما زال حكامنا يأخذون بسنّة معاوية، ويتركون سنّة علي، فيقتصون من خيالات ظل لإسكات العامة وربما لإرهابهم.

وما زال هناك من يريد تحويل دماء الشهداء في كل زمان إلى قميص عثمان، وقميص عثمان الذي يمسك به السيسي الآن هو القضاء على الإرهاب، فهل قضيت حقا على الإرهاب؟!

080466BE-4B84-427B-ADA4-6430655C36F1
منى زيتون

باحثة وكاتبة، دكتور الفلسفة تخصص علم النفس التربوي من جامعة القاهرة.