هل تصمد حكومة المشيشي طويلاً؟

هل تصمد حكومة المشيشي طويلاً؟

06 سبتمبر 2020

المشيشي بؤدي اليمين رئيسا للحكومة التونسية في قصر قرطاج (2/9/2020/فرانس برس)

+ الخط -

لم يعد التونسيون يتذكّرون عدد الحكومات التي تتالت عليهم بعد ثورة 2011، التي علّقوا عليها آمالاً عريضة، لم يتحقق منها سوى القليل. ربما اختلفت الشعارات المرفوعة، وتدافعت في حناجر المحتجين، ولكنها لم تخرج عن مطالب العدالة والكرامة والحرية التي ما زالوا يحتجون باسمها إلى حد اللحظة الراهنة، ولكن من دون خوف أو قمع هذه المرّة. 

يبدو أن الاستقرار السياسي ما زال بعيد المنال، فإذا كانت حكومات ما قبل 2014 عائدة تحديداً إلى غياب دستورٍ ينظّم إفراز الحكومات، ويحدّد اشتغال المؤسسات السياسية في البلاد، فضلاً عن الصعوبات الأمنية التي تفاقمت على إثر عملياتٍ إرهابيةٍ غير مسبوقة، وصلت إلى حد الاغتيالات السياسية، فإن الأمر لم يعد، حسب اعتقادهم، قابلاً للتبرير، منذ انتخابات 2014. عرفت البلاد بعد ذلك التاريخ أربع حكومات عرفت تعديلات عديدة. لم تفلح انتخابات 2019 في لجم هذا التواتر السريع للحكومات إلى حدّ الدوار. الأسباب عديدة: نظام سياسي "بلقن" السلطات، ووزّعها على رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان، نظام اقتراع يحول دون تشكل أغلبيات برلمانية قوية، وأخيراً ثقافة سياسية تترسخ لدى الأحزاب، هي أميل إلى الغلبة والهيمنة والتشفي من الخصم، بل واعتباره عدوّاً جديراً بكل أشكال التنكيل.

نظام سياسي "بلقن" السلطات، ووزّعها على رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان

في هذه المناخات، سقطت حكومة إلياس الفخفاخ بعد ستة أشهر من نيلها ثقة البرلمان، في سياقاتٍ تُنذر بمزيدٍ من الاحتقان، فما إن تسلمت مقاليد الحكم، حتى زحف وباء كورونا ليشلّ حالة البلاد الاقتصادية والاجتماعية، فسجّلت أرقام سياسية منذرة بالكارثة. النجاح الوحيد الذي يُحسب لها هو السيطرة على الوباء والحدّ من انتشاره، في بلد تشكو فيه الهياكل الصحية ومؤسساتها تقادماً وقلة إمكانات. الرأسمال البشري من أطباء وممرّضين وتقنيين مشبعين بقيم الإيثار والتطوع والتضحية كان الستار الواقي الذي حمى تونس، غير أن هذا النجاح أربكته منذ أسابيع قليلة عودة الموجة الثانية.

لا تعنينا السياقات العديدة التي حفّت بسقوط حكومة الفخفاخ، خصوصاً ونحن معنيون بفهم محدّدات تشكيل حكومة المشيشي التي خلنا جميعاً، وحسب ما حدّده الدستور والتصريحات التي تتالت، أنها "حكومة الرئيس" الذي بدا ممسكاً بكل خيوط اللعبة. كان رئيس الحكومة، إلياس الفخفاخ، يسابق الدقائق، حتى يقدّم استقالته إلى الرئيس، ويتجنّب الإقالة، لكي يضمن إعادة العهدة الدستورية إلى رئيس الجمهورية الذي كان له ما أراد، فتمكّن ثانية من تعيين هشام المشيشي، أحد مستشاريه السابقين (الشؤون القانونية ...)، والذي شغل أيضاً منصب وزير الداخلية في الحكومة المستقيلة. وفي أقل من شهر، يبدو أنه ضاق ذرعاً بتدخّل المقرّبين من محيط الرئيس في تعيين أعضاء فريقه الحكومي الذي لم يكن واثقاً بأنه سيحظى بنيل ثقة البرلمان. ويبدو أن علاقة الرئيس بالمشيشي قد مرّت بفتور، قبل أيام قليلة من انعقاد الجلسة البرلمانية الخاصة بنيل الثقة، حيث بدا الأخير عنيداً قوي الشكيمة، وهو الذي كان الرئيس ينتظر منه أن يكون طيّعاً. بادر إلى التحرّك تجاه الأحزاب، وهو يعلم أن الرئيس يعتبرها خطراً على البلاد. استبق الأمور بطلب رضاها، فتلقفت الرسالة، وتحديداً الحزبان الأولان بحسب نتائج الانتخابات، حركة النهضة وقلب تونس، بكثيرٍ من الغبطة والسرور. هذه الهدية التي قدّمها المشيشي على طبق من ذهب إلى الأحزاب التي كان الرئيس يزدريها، ويعاملها بطريقة مهينة، ذهبت إلى حد رفض الاجتماع معها، ستسمّم الأجواء.

ثقافة سياسية تترسخ لدى الأحزاب، أميل إلى الغلبة والهيمنة والتشفي من الخصم، بل واعتباره عدوّاً جديراً بكل تنكيل.

تسارعت الأمور بشكل مثير، إذ طلب الرئيس، قبل أن تنقضي المدة الدستورية بساعات محدودة، من الأحزاب نفسها، أن تجتمع معه، بعد أن كان يرفض حتى مجرّد الاستماع إليها، معلناً بذلك ضمنياً عن تنازل حاد. ويبدو أنه عبّر، في أثناء الاجتماع هذا، عن تبرّمه من المشيشي الذي تمرّد عليه. ذهب الرئيس إلى حد طمأنة من حضر أنه لن يحلّ البرلمان، إذا ما أسقطت حكومة المشيشي، وهو السيف المسلط عليها الذي كانت تخشاه، فالدستور يجيز للرئيس هذه الإمكانية. وقد فتح هذا الموقف باب التأويلات على مصراعيه، وما زال الجدل محتدّاً، إذ ينكر بعضهم أن يكون الرئيس قد طلب صراحةً إسقاط الحكومة، في حين يقرّ آخرون بأن الطلب كان واضحاً، لا غبار عليه.

غدت السياسة عبث مناوراتٍ يسجّل فيه الفرقاء والخصوم النقاط بكل عنفٍ وتشفٍّ

وبقطع النظر عن تلك التفاصيل التي حفّت باليوم الأخير من مسلسل تشكيل الحكومة، لا يمكن إنكار حالة الفتور التي بدت واضحة بين الرئيس سعيد ورئيس الحكومة المشيشي الذي رمت له الأحزاب طوق النجاة. تتحدّث تسريباتٌ أن ذلك كان صفقةً سياسيةً واضحةً تضمّن تعديلاتٍ قادمةً في أقل من سنة، يتم فيها تطعيم الحكومة تدريجياً بوزراء من الأحزاب التي منحته أصواتها، وهو الذي فاز بما يقارب 135 صوتاً (من 217). وقد ظلت الأحزاب، سواء التي منحت ثقتها للحكومة أو التي عارضتها، تحبك المناورة تلو الأخرى، حتى غدت السياسة عندها عبث مناوراتٍ يسجّل فيه الفرقاء والخصوم النقاط بكل عنفٍ وتشفٍّ، ما عسّر أي توافقاتٍ وطنيةٍ واسعة، في سياقٍ تشرذمت فيه الأحزاب، وعجزت عن تكوين أغلبية مريحة تحكم، وهو ما دفعها إلى تشكيل تحالفاتٍ هجينةٍ وغريبة.

ستمرّ هذه الحكومة بفتراتٍ عصيبة، في ظل النفور الذي بدا واضحاً بين رئاستي الجمهورية والبرلمان (حركة النهضة) التي كال لها الرئيس سعيد التهم ضمنياً، في أثناء تأدية مراسم القسم، غير أن مساعي الوساطة لتهدئة هذه الجبهة تجري حالياً على قدم وساق. سيجد المشيشي نفسه، إذا استمرّ هذا الصراع بين الطرفين، بمثابة عبد مطالب بإرضاء سيدين متخاصمين، كما يقول هيغل.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.