هل الفلسطينيون لا يخافون الموت؟

يميل كل شعب إلى تمجيد ذاته، وإبراز فضائله، وتبيان أوجه الاستثنائية التي يختص بها عن غيره، وقد يصل الاعتقاد بأفضلية الذات إلى حالة من النرجسية المرضية التي تُخيل لأصحابها أنهم استثناء من القوانين التي تحكم غيرهم من الأمم والأقوام، فلا يقبلون محاكمتهم، حسب السنن البشرية الطبيعية، ويظنون أن لهم خصوصيتهم، وأن قضيتهم يجب أن تناقش في إطار مختلف عن كل ما سبقها من أمثلة تاريخية، وأن ما يصيب الشعوب الأخرى من ضعف وتراجع لن يصيبهم، وأن الفشل والهزيمة لن يعرف إليهم سبيلاً.
رغبة الأمم والشعوب في إبراز استثنائيتها، ينقضها التوجه العام في القرآن الكريم، والذي يؤكد دائماً على عموم القوانين التاريخية والاجتماعية والنفسية، إلى جانب تأكيده أن لا محاباة، ولا أفضلية، لشعب على آخر، فإن القرآن يبطل زعم الاستثنائية التي تطرب لها الشعوب وترضي بها غرورها.
في تعليقاتٍ يكتبها فلسطينيون على حوائط العالم الافتراضي، إطراءً على الذات، يقولون إن الشعب الفلسطيني لا يهاب الموت، ويقابل أصوات القصف بسخرية، والأمهات يستقبلن أخبار مقتل أولادهن بالفرح والزغاريد. هل يعني هذا أننا شعب انتزعت منه الخصائص الإنسانية الفطرية، من خوف وقلق وحب للحياة الهادئة المطمئنة، وهل ماتت فينا مشاعر الأمومة والأبوة والأخوة.
حين نعطي لأنفسنا ميزات استثنائيةً عن الآخرين، فبذلك نسلم بحق كل شعب أن يفعل ذلك، ولن يعدم كل شعب صناعة رواية خاصة به، يثبت فيها أن له من الفضل ما ليس لغيره، فالعراقي والمصري والسوري والتونسي، يستطيع كل منهم أن يقول بلسان الحال: "نحن شعب مالوش مثيل وصنعنا ما لم يصنعه غيرنا".
نعم. الشعب الفلسطيني لم يعد يبالي بأخبار الموت، وصار يقابل أصوات القصف الإسرائيلي بالسخرية، لكن مرد هذا ليس إلى اختلاف جيني عن البشر، بل هي السنة الإلهية في قدرة أي شعب على التكيف مع ظروفه الصعبة، حتى يظل قادراً على أداء رسالته. لذلك، كل شعب يصوغ شخصيته بما يناسب ظروفه الطبيعية والسياسية، وليست هذه الحقيقة حكراً على المسلمين وحدهم، بل هي سنة عامة.
الشعوب الأوروبية، مثلاً، استطاعت، في ظل الحربين العالميتين المدمرتين، التعايش مع واقعها المأسوي، فسكن الناس في الملاجئ، وتعلموا فيها، لأن الإنسان لا يملك إلا أن يواصل مسيرة حياته. لذلك، هو مضطر للتعايش مع أي ظرف، ودائماً ما يخرج من مكنونه ما يؤهله للانتصار في صراع البقاء.
قبل سنوات، كان أصدقاء سوريون يسألونني مستغربين، كيف تعيشون في غزة في أجواء القصف والحرب؟ كنت أبتسم وأقول لهم هي حياة طبيعية تماماً. وما حدث الآن أننا نحن الذين صرنا نستغرب كيف يعيش الشعب السوري، مع كل هذا القدر من القتل والتدمير على أرضه، فالأمر لا علاقة له بمعجزة، بل هي السنن النفسية والاجتماعية التي أوجدها الحكيم، لينتصر الإنسان على تحديات الحياة.
مواجهة الشعب الفلسطيني بالابتسام والسخرية، وتسمية موجات القصف بالحفلات، لا يعني أن هرمونات الخوف الطبيعية نزعت منا، إنما يعني أن إطاراً اجتماعياً جديداً تشكل، وأعيد فيه تحديد معايير ما هو مخيف ومقلق، وما هو ليس كذلك، للتكيف مع مستوى التوتر المعاش منذ سنوات طويلة.
حين يعيش الإنسان في مجتمع هادئ جداً، فإنه يستثار من صوت رصاصة. لكن، حين يستمع كل يوم إلى أصوات الرصاص، فسيفترض أن هذا الرصاص لن يصيبه، على الأرجح، بحكم تأقلمه مع هذه الحالة.
وحين نسخر من أصوات القصف، فلأنه قد غلب على ظن كلٍّ منا أنه لن يكون ضحية القصف القادم، ولو أن أي شعب يعيش، الآن، في هدوء وسلام، تبدلت ظروفه، وتعرض لحرب مدمرة، اضطر للتعايش معها سنوات طويلة، فسيكتسب مناعةً طبيعيةً، يتكيف بها مع أحواله الجديدة.