هل أخطأت؟

هل أخطأت؟

25 نوفمبر 2019
+ الخط -

1- رشوة صحافية
قبل نحو 20 عاماً، تلقيت دعوة للمشاركة في تغطية مؤتمر نظمته إحدى المؤسسات الاقتصادية في دولة عربية، وكنت ضمن وفد ضمّ نحو 20 صحافياً. في نهاية المؤتمر، أبلغتني سكرتيرة الجهة الداعية أن رئيس المؤتمر يطلبني أن أذهب إليه في مكتبه. ظننت أنه يريد أن أجري معه حواراً صحافياً، فأسرعت إلى غرفتي وأحضرت أجندة وقلماً، وكتبت على عجل أسئلة للحوار، وما إن دخلت على رئيس المؤتمر حتى قدّم لي ظرفاً مليئاً بالدولارات، فرفضت، فقال لي: إن كل زملائك أخذوا الهدية، فلا تحرجهم. أصررت على موقفي، وخرجت من الغرفة وأنا غاضب خوفاً من أن يظن باقي زملائي أنني حصلت على الظرف "المنتفخ" الذي عرفت بعد ذلك أنه كان بداخله 1200 دولار. ركبنا الأوتوبيس في طريقنا إلى المطار، عقب انطلاق الأوتوبيس وقفت في منتصف طرقته لأبلغ الجميع رفضي قبول الظرف، ووجدت عتاباً كبيراً من الجميع، وقال لي أحدهم: "لمَ إحراج باقي زملائك؟ أنت حر في رفضك، لكن لا تفرض رأيك على الآخرين ولا تسبب لهم حرجاً"، وكانت المفاجأة التي أسعدتني أن كرر زميل آخر ما فعلته وأبلغ الجميع رفضه الحصول على الظرف، فهل أنا أخطأت في موقفي، وهل كان من الأفضل أن أسكت؟

2- عرض مغرٍ
تلقيت اتصالاً من شخص أعرفه جيداً يطلب وساطتي في تسوية دَين متعثر مستحق على أحد كبار رجال الأعمال قيمته 200 مليون جنيه، كان العرض كالآتي: "رجل الأعمال سيسدد فقط للبنك الدائن أصل القرض، وهو 120 مليون جنيه، مقابل إسقاط أعباء الدَّين من أسعار فائدة وعمولات من قبل رئيس البنك، وأنا سأحصل على عمولة قيمتها 20 مليون جنيه، والوسيط "المتصل" 20 مليون جنيه، أي إن المحصلة هي أن البنك سيتنازل لرجل الأعمال عن 80 مليون جنيه، وهنا سيوفر المقترض 40 مليون جنيه". أعترف بأن المكالمة عقدت لساني وأصابته بالشلل، فأنا لم أتوقعها من هذا الشخص الذي كان يعمل في العمل العام، خاصة أن الجميع يعرفون ابتعادي عن هذه الشبهات، فأنا لم أحصل على قرض طوال حياتي الصحافية رغم صداقتي لمعظم رؤساء البنوك، وظن الوسيط أن صمتي يعني قبولي بالعرض، لذا واصل الحديث عن تفاصيله، قائلاً: "دورك أن تقنع رئيس البنك "صديقك" بالأمر، الملف عنده الآن، المطلوب فقط من رئيس البنك أن يقدم الملف إلى لجنة تسوية الديون المتعثرة، واللجنة ستوافق على التسوية طالما وافق رئيس البنك"، أغلقت التليفون في وجه المتصل بعد أن شتمته بأقذع الألفاظ، رغم كبر سنه ومنصبه، فهل أنا أسأت إلى الرجل الذي كنت أعرفه جيداً، وهل أخطأت عندما لم أتماسك نفسي؟


3 - المسؤول المرتشي
قبل نحو 15 سنة لاحظت أن أحد المسؤولين المصرفيين البارزين يتلقى رشى، كان الأمر بالنسبة إليّ كارثة، فمن مهام الرجل الرقابة على سوق النقد الأجنبي وشركات الصرافة في مصر، وهي جد وظيفة خطيرة. كان الرجل في موقع حساس جداً، إذ إنه كان يشرف على واحد من أبرز القطاعات الاقتصادية المتعلقة بسوق الصرف التي من أبرز مهامها ضبطه وكبح المضاربة على الدولار وملاحقة الساعين إلى تحقيق أرباح ضخمة من عمليات التلاعب في العملة على حساب الاقتصاد القومي. كان من مهامه الرئيسية أيضاً مواجهة تجار العملة وإحباط أي محاولات للمضاربة على الجنيه المصري أو محاولة تسخين سعر الدولار. ببساطة، كان الرجل يتولى منصباً مهماً في توقيت غاية في الحساسية، إذ إن مصر وقتها كانت تشهد عمليات مضاربة عنيفة في النقد الأجنبي وتهريب أموال إلى الخارج، خاصة من قبل رجال أعمال اغترفوا مليارات الجنيهات من البنوك بضمانات وهمية أو مزورة أو بغطاء سياسي.

أولى ملاحظاتي على هذا المسؤول البارز، أنه كان يقبل عزومات رجال الأعمال وأصحاب شركات الصرافة المسؤول عن مراقبتها، وهذا ممنوع بحكم العرف والقانون والمهنة. في إحدى المرات دخلت على رئيس شركة صرافة تقع بوسط القاهرة، لأجري حواراً معه، حيث كنت أعدّ تحقيقاً صحافياً، وكانت المفاجأة: عزومة كبيرة للمسؤول والفريق المعاون له، الذي جاء ليفتش على شركة الصرافة ويراقب عملها ويتأكد أنها ملتزمة قواعد البنك المركزي.

بعدها بأيام ذهبت إلى هذا المسؤول في مقر عمله ودخلت عليه في مكتبه، فإذا به مرتبك غاضب مني حانق لأبعد الحدود، لأنني اقتحمت عليه مكتبه دون أن تبلغه السكرتيرة. حاول إخراجي بسرعة، وزاد من ارتباكه ملاحظتي أنه يتلقى هدية من شخص بشركة صرافة كان يجلس أمامه، هنا تأكدت أن في الأمر شيئاً، وأن هذا الرجل لا يجب أن يجلس في هذا المكان الحساس. أبلغت مسؤولاً اقتصادياً بارزاً في الدولة، ونقلت له شكوكي، وقلت له إن الرجل يتلقى رشىً رغم منصبه الحساس. هنا كان القرار الرسمي هو وضع الرجل تحت الرقابة، وبعدها ابلغني المسؤول الكبير أن شكوكي صحيحة، وأن الرجل أُقيل من منصبه. ساعتها، تخيلت أن الرجل سيخجل من نفسه وسيتوارى عن الأنظار، لكن فوجئت بأمرين: الأول، إقامته دعوى قضائية ضد الجهة التي كان يعمل بها بزعم فصله تعسفياً، والثاني تعيينه مستشاراً لاتحاد يضم عدداً من كبار رجال الأعمال والتجار. بالطبع، خسر الدعوى، وبعدها منصبه. فهل أنا أخطأت عندما تسببت بإقالة هذا الرجل؟

4- ملياردير التهريب
وصلتني معلومة مهمة من سطر واحد. كانت المعلومة من شخص بارز في الدولة، مضمونها أن أحد مليارديرات مصر يهرّب أمواله إلى الخارج، وحدد لي المسؤول أسماء الدول التي يعمل رجل الأعمال على تهريب أمواله إليها. صدمت من المعلومة، ليس لأن رجل الأعمال ملء السمع والبصر، وشركاته تسدّ عين الشمس، وتصفه الصحف ووسائل الاعلام بأنه صاحب القلاع الصناعية ورجل الصناعة البارز، بل لأن الرجل مدين للبنوك بمليارات الجنيهات ويتلكأ في سدادها، ويزعم دوماً تعثره، ويطلب من البنوك جدولة مديونياته بحجة عدم توافر سيولة نقدية لديه. هنا غلى الدم في عروقي، وقلت لنفسي إن رجل الأعمال هذا لا يقوم فقط بتهريب ماله الخاص إلى الخارج، بل بتهريب أموال المودعين في البنوك، أي إنه يسرق أموال المجتمع، وفي المقابل يتهرب من سداد المديونيات المستحقة عليه التي هي أصلاً أموال المودعين.

هنا قررت فضح هذا الرجل على الملأ وكتابة تقرير صحافي موسع عنه، وذكرته بالاسم والدول التي يهرّب أمواله إليها ومواعيد تحويل هذه الأموال وقيمتها. الرجل هاج وماج وتوعد ونفى بشكل قاطع إجراء عملية تهريب لأمواله، وحتى يدلّل على موقفه، أعلن التزامه سداد المديونيات المستحقة عليه، وكانت نتيجة التقرير الذي نشرته أن تراجع الرجل عن مواصلة تهريب أمواله ووجه السيولة التي بحوزته لسداد مستحقات البنوك. فهل أنا أخطأت لأنني فضحت الرجل بهدف المحافظة على أموال البنوك ومودعيها؟

5- "الليدي" الغربية
تعرفت إليها في العاصمة البريطانية لندن حيث كانت تشارك في أحد المؤتمرات الاقتصادية الدولية بحكم منصبها، فقد كانت تشغل منصباً اقتصادياً عالمياً مرموقاً. جلست معها وتناقشنا في بعض الأمور الاقتصادية، فوجدت قيادة نسائية رفيعة التفكير في مجالها، تسعى إلى نشر الصيرفة الإلكترونية وبطاقات الدفع الإلكتروني في المنطقة العربية، لديها حلم بأن يتعامل العرب جميعاً ببطاقات الدفع البلاستيكية، وأن تكون بحوزتهم بطاقات خصم وائتمان، وأن يتخلوا عن ظاهرة حيازة النقود وملء جيوبهم وحافظة نقودهم بالبنكنوت المتسخ. تحمست لأفكارها، ورحت أنشرها في سلسلة تحقيقات صحافية. وبعدها لم نلتقِ لمدة عام، إلى أن التقينا في مؤتمر بإحدى العواصم العربية. عندما رأتني سارت نحوي لتصافحني، وعندما اقتربنا همّت بطباعة "قبلتين" على خديَّ الأيمن والأيسر كما يفعلون في الغرب. هنا تراجعت إلى الخلف بسرعة ووضعت يدي أمام وجهها للحيلولة دون أن يلامس خدّاها خديّ، وهو ما أحرجها حرجاً شديداً أمام كل من حولنا، فهل أنا أخطأت في حق هذه السيدة التي ترى أن ما فعلته سلوك عادي؟

مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".