هكذا عرّفَني ولدي على أبي

هكذا عرّفَني ولدي على أبي

05 ابريل 2020
+ الخط -
اشتريت لطفلي الصغير منذ أيام بعض الألعاب، فأرسل لي رسالة صوتية من هاتف أمه يقول لي فيها: (بابا الله يرضى عليك ويرزقك كتير ليرات.. بابا أنا بحبك كتير).

لا أبالغ إنْ قلت إنّ سعادتي بهذه الكلمات العفوية تفوق سعادة طفلي بألعابه، فالأب تغدو سعادته مضاعفة حين يرى الفرح في عيني أطفاله.

منذ أن صرت أباً صارت صورة والدي لا تفارق مخيلتي، تتراءى أمامي في كل حركة وموقف بيني وبين ولدي، مهما كان الموقف بسيطاً، فإن ضحكت لتصرف منه أسأل نفسي: هل يا ترى كان والدي يفرح كفرحي الآن؟ وإن غضبت لتصرف شقي من ولدي -وغضب الوالد من ولده ليس غضباً- انقبضت نفسي: هل كان والدي كذلك يغضب مني في قرارة نفسه؟ وتبقى تلك المقارنات تعصف في ذهني بين أخذ ورد، وأنا أتذكر عبارة كثيراً ما كان يرددها والدي على مسمعي: (يا بني لن تعرف معنى الأب حتى تصبح أباً). ووالله لقد صدق، نعم.. عندما أصبحت أباً تعرفت إلى أبي من جديد.

عرفت أن ذلك الرجل الذي ظاهره الملامح القاسية والبنية الخشنة، باطنه فيض من مشاعر الحب والحنان والرحمة، ولكنّ عزة الأب وكبرياءه تأبيان أن تظهراها في بعض الأحيان.

عرفت أن ذلك النفَس الخفيف الذي يسمى (أف) رغم خفة حروفه، يفعل فعله في قلب الأب فيكسر أشياء يصعب جبرها، فتتملكني الرهبة كلما مررت بقوله تعالى (فَلَا تَقُل لهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا).

عرفت أن الغلوّ مذموم في كل شيء إلا في حب الوالدين، فكلما غاليت في حبهما وخضعت لهما ازددت رفعة وانفرجت لك أسارير الحياة ولان أمامك عسيرها.


غريبون نحن البشر، لا نشعر بقيمة الأشياء إلا بعد فقدها أو فوات أوانها، ففي الوقت الذي يحتاج فيه الأب لحنان ابنه تجده منشغلاً عنه، غير مدرك لقيمة تلك النعمة التي حباه الله إياها، وإن حدث وأدرك الولد قيمتها يكون الأوان قد فات على كثير منهم!

يحزّ في نفسك وأنت تسمع عن أبناء يقاطعون آباءهم، فتمر الأيام والليالي دون أن يكلفوا أنفسهم عناء السؤال عنهم فضلاً عن رؤيتهم، فيعتريك العجب، كيف لهذا المخلوق اللطيف الضعيف الذي كان يبكي ويصرخ إن غاب عنه والداه ساعة، أن يحتمل بُعدهما عنه أياماً وشهورا؟ من أين له تلك القسوة؟ ومن الذي جرأه على ذلك؟ مخيفة هي تقلبات الحياة!

وترى في المقابل من صور بر الوالدين والإخلاص لهما، ما يجعلك تتعجب أن يكون منشأ البشر واحداً!

وبين هذا وذاك، وفي عصر الشبكات الاجتماعية التي زادت من عزلة الفرد وأورثته بلادة المشاعر، يجب علينا أن نزرع في نفوس أبنائنا وهم صغار إكبار الأب واحترامه، وإدراك قدسية هذه المنزلة التي سوف يتبوؤها كل رجل. وإليكم بعض النصائح التي جربتها فوجدتها مفيدة:
- لا تحدث أولادك عن بر الوالدين، بل دعهم يرونه في تصرفاتك، فالطفل إن رآه منك قلدك فيه، وهو يتعلم بالتقليد أضعاف ما يتعلم بالتلقين.

- ردد على مسامعهم قصص بر الوالدين، فالقصص من أفضل الطرق التعليمية للأطفال، وكثيراً ما تعلق في ذاكرتهم إلى أن يكبروا، ويحاولون تقليد بطل القصة.

- شجعهم على تأدية أدوار تمثيلية كأن يأخذ أحدهم دور الأب والآخر دور الابن، وأطلق لهم العنان، وستجد منهم ما يبهرك.

- لا تزرع في أولادك الخشونة والقسوة بحجة أن الرجل يجب أن يكون قاسياً، فهذه القسوة سينالك نصيب منها عاجلاً أم آجلاً.

- حاول أن تضعهم في مواقف حقيقية (بالشارع مثلاً) تختبر من خلالها مدى عطفهم على كبار السن، وبناء عليه فإن عطفهم على والديهم يكون أعظم من عطفهم على الغريب.
- الدعاء.. ثم الدعاء.. ثم الدعاء. فالحب محله القلب، والقلب بين أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء.

أيها الأبناء.. إن الأب في هذه السن استنفد جهده، طحنته السنون ورسمت تلك الأخاديد والتجاعيد في وجهه، منها نبتت عروقك، وسقاك بعرق جبينه فتكونت طفلاً وغدوت رجلاً، فيها جذورك وإليها انتسابك، أنت مشروعه الذي أفنى لأجله كل عمره حتى يباهي بك الناس، فبالله عليك كن عند حسن ظنه، كن فخراً له ولا تزده عجزاً فوق عجزه.

هو الآن في أرذل العمر، قدم لك عصارة عمره، وينتظر منك رد الجمل ولو بالقليل، فقليلك كثير بالنسبة له، ابقَ بقربه، أشعره باهتمامك، تلمس احتياجاته، لا تنتظره حتى يطلب منك ما يحتاج، فكبرياء الرجل وعزته تمنعانه عن مد يد الحاجة لأقرب الناس إليه، قد يحتاج إلى اللباس والطعام والشراب، ولكن حاجته إلى الكلمة الطيبة أكبر، مهما كانت مشاغلك ومشاريعك فإن في الوقت متسعاً لدقيقة واحدة، نعم دقيقة واحدة، ترسل بها رسالة إلى جواله تخبره فيها أن مشاغلك مهما كثرت لن تنسيك من كان سبباً لوجودك في هذه الحياة، وتأكد أن تلك الكلمات ستفعل في قلبه العجب، ستنسيه وحشة الكبر ووهن العظم وتقدم السن. تكفيه الكلمة الطيبة، وتؤذيه نظرة التأفف.

ذاك هو الأب. أما الأم.. فتلك ملاك.. وأنا أعجز عن وصف الملائكة.

دلالات

E369BD0D-C383-46BD-8721-E6766ECDA42B
محمود كريم

صحافي سوري خريج جامعة حلب قسم اللغة العربية، معد برامج وتقارير إخبارية لمؤسسات إعلامية سورية عدة.