هكذا تقمصني المغتربون

هكذا تقمصني المغتربون

13 اغسطس 2020
دمار (حسام شبارو/ الأناضول)
+ الخط -

أستعيرُ من المغتربين أرواحهم وأضعها مكان روحي. صباح اليوم التالي للانفجار في مرفأ بيروت، بدأتُ أعي ما حدث. كان وعيي ولاوعيي قد اتفقا على إبعاد الصور والحقائق عن جمجمةٍ لم تعد تحتمل. مشاهد قاسية قد تخمّرت في دماغي، حتّى شُخّص بالعجز. والمصيبة، ليس كما كان يقال سابقاً، "بتِجْمَع"، بل إن المصيبة هي التي تجتمع حولنا وقد اختصرتنا كشعب وجعلتنا في مسار واحد وهمٍّ وحيد. وفي المرحلة الثانية، جمعتنا المصيبة. وحين أُمعن النظر، أرى أن المصائب جمعتنا. ولا قيمة كبيرة للتفاوت هُنا. 
والمغتربون، حين تقمّصوا روحي التي سحبها دخان الانفجار الأحمر، من دون أن أدرك، لم يجدوا أية صعوبة. جسدي كان مهيّاً للشوق إلى بيروت، بتلك البراءة، النوستالجيا، مستعيداً الكورنيش البحري، فيروز، الناس.. كلّ تلك التفاصيل التي تبدو على لسان المغتربين مثل مسرحيّات الرحابنة، والهلال والصليب جنباً إلى جنب كصورة متكرّرة محلية وإقليمية وعالمية ترمز إلى التعايش
بيروت التي تُدفِئ قلوب المغتربين بمجرّد مرورها ضيفة على أحاديثهم، جالبةً معها، وبخبث، كمّاً من الذكريات لم تكن جميلة في حاضرها. لكنهم يرأفون بهذه الذكريات ويُضفون عليها لمسة مختلفة، حنونة، قادرة على إضافة نبضات جديدة إلى تلك الآلية المنظمة. وأصير مثلهم، تمرّ أمام عينيّ صور لبيروت الستينيات وما بعدها، على الرغم من قساوة الحرب الأهلية، غير آبهة إلا بالمدينة التي عقدوا معها اتفاقاً لا تغيّره الظروف. يلتقون معها يومياً على فنجان من القهوة. صبحية ونميمة وفيروز في الخلفية. وتدور المقارنة بين فيروز وعاصي ومنصور الرحباني وفيروز وزياد الرحباني، ثمّ نتمادى في تحليل نفسيّات العائلة، ونخلص إلى أنها أيقونة، ونتقبّل كلمة كَثُر استخدامها حتى باتت "كليشيه".
تطول الصبحية. "بيروت يا بيروت يا قصة بصندوق فرجة كبير" (أحمد قعبور)... وتبدأ أصوات المغتربين في الغناء على إيقاع واحد وثابت وعاطفي... 

موقف
التحديثات الحية

لا شيء يدوم. تُغادر هذه الأرواح جسدي صاحب الجمجمة المرهقة، فيختلط الوعي باللاوعي وأصير عاجزة عن التقاط الصور، باستثناء الدخان الأحمر، الذي راح يرتفع ويرتفع قاصداً السماء، هارباً من أشلاء الضحايا وصراخ بيروت. المدينة كانت تصرخ. كلّ ما فيها كان يصرخ، مثل لوحةٍ عزيزة لم تكن مثبتة جيداً على الحائط.
القاتل المتسلسل أرادنا أن نوجّه غضبنا إلى المدينة، أو وضعنا في خانة اللاشعور. ما زال وعيي مرتبكاً. خرجتُ من البيت هاربة من الأحياء التي أعرفها. أخاف أن أكره المدينة، وكأنني أخجل من كلّ من ذكر اسمها، كخائنة. غادرتني روحي وأرواح المغتربين. صرتُ بلا روح أقرأ حروف بيروت ولا أفهم ولا أشعر. أين أنا؟

المساهمون