أصدرت جامعة برينستون الأميركية المرموقة، قبل أربعة أعوام، أضخم موسوعة للفكر السياسي الإسلامي (الطبعة الأولى عام 2013). ولم تحظ بمعرفة وانتشار واسعين في العالم العربي، ربما لعدم اهتمام القارئ العربي بالموضوع، اعتقاداً أنه قد يبدو من الكلاسيكيات، فيما هو ليس كذلك، وربما لأنها صدرت في وقتٍ ينشغل فيه العرب بأزمات ومشكلات كثيرة، ما لا يجعل لديهم الوقت الكافي للاطلاع على ما هو جديد في هذا المجال، وربما لأنه لم تتم ترجمة الموسوعة التي كتبت بالإنكليزية، وتقع في حوالي 700 صفحة من القطع الكبير. وشارك في كتاباتها ما يقرب من 250 باحثا وباحثة من كل العالم، أجانب وعربا وأتراكا وهنودا وإيرانيين، مسلمين ومسيحيين ويهودا. وقام بتحريرها خمسة من كبار أساتذة الفكر والدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية، في مقدمتهم البروفيسور جيرهارد بورينج، أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة ييل الأميركية، ومعهم البروفيسور المعروف في جامعة برينستون، محمد قاسم زمان، المتخصص في التاريخ والفكر السياسي الإسلامي.
انبثقت فكرة كتابة الموسوعة، كما يذكر المحرّرون، من ورشة عمل عُقدت لهذا الهدف في خريف 2007، أي قبل عقد، في جامعة برينستون، وكانت الغاية وضع عمل يشمل كل جذور الفكر السياسي الإسلامي وأصوله منذ عصر النبوة وحتى يومنا هذا. وهو ما يشمل ليس فقط الأفكار، وإنما أيضا المفكرين والشخصيات الإسلامية التي كان لها إنتاج فكري سياسي، وكذلك الحركات والجماعات والتنظيمات الإسلامية عبر التاريخ، بل والمدن والأحداث التاريخية التي لها علاقة بمسألة إنتاج الفكر السياسي الإسلامي.
الموسوعة غزيرة وغنية بالمعلومات والتوثيقات بشأن تحقيب الفكر السياسي الإسلامي ورموزه ومنتجيه، وسياقات إنتاجه السياسية والدينية والاجتماعية. ولا تخلو من أفكار لامعة وذكية بحاجة إلى مزيد من البحث والدراسة. فعلى سبيل المثال، يفيد المحرّرون، في مقدمة الموسوعة، بالتأثير الذي تركه الفكر السياسي الفارسي والتركي على المفكرين والفقهاء والكتاب المسلمين خلال العصرين الأموي (41 - 132هـ) والعباسي الأول (132 - 232هـ)، وذلك نتيجة للتوسع الذي شهدته الدولة الإسلامية شرقاً وشمالاً. فتذكر مثلاً كيف تأثر قاضي القضاة، يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، الشهير بأبي يوسف (113- 183هـ) بكتابات أبو محمد عبد الله بن المقفع (106-142)، ذي الأصول الفارسية، ومؤلف كتب الأدب ومترجم "كليلة ودمنة" من الفارسية إلى العربية، بعد نقله من الهندية قبل ذلك بقرون. ومن المعروف أن كتاب "الخراج" لأبي يوسف من أوائل الكتب والمصادر التي تتعاطي مع مسائل الحكم وإدارة شؤون الدولة وجمع الضرائب.. إلخ.
ومن الأفكار الملفتة في الموسوعة أيضا تأثير التداخل بين الثقافات العربية والمغولية والهندية والتركية والفارسية على الفكر السياسي العربي، خصوصا خلال العصر الوسيط. فمثلا تشير الموسوعة، وهو قد لا يكون أمراً جديداً، إلى كتاب "سياسات نامه" (سير الملوك)، الذي وضعه قوام الدين أبو علي الحسين بن علي بن إسحاق بن العباس الطوسي (408 – 485 هـ) ذي الأصول الفارسية، والمعروف بـ "نظام الملك" كبير وزراء السلاجقة، وتأثيره على الفكر السياسي الإسلامي فيما بعد. وهو كتاب يختص بمناقشة تنظيم أمور الحكم وضرورة قيام العدل، وتنظيم أمور الدولة والاستقطاع، وتنظيم الإدارة والجيش، والعلاقة مع السلطة المركزية في عصر السلاجقة.. إلخ.
تقدّم الموسوعة رؤية بانورامية للباحثين في مجال الفكر السياسي الإسلامي، وتضيء بعض المساحات الغامضة في تطور هذا الفكر، وتعطي تفصيلاً عن أهم رموزه ومؤسسيه. وهي، كأي عمل من هذا النوع، ليست خالية من بعض أوجه القصور، لكنها تظل العمل الأضخم في مجاله حتى يومنا هذا.