هذه الخطوة التاريخية في السودان

هذه الخطوة التاريخية في السودان

31 يوليو 2020
+ الخط -

تشهد الساحة السودانية حالة من الحراك النشط، وبسبب قوته، يُقابَل بتوجسات وقلق يشتد لدى العامة، ومخاوف بين بعض أطراف النخبة من انفراط عقد الدولة بكاملها، على أن الأكيد أن رياح التغيير تهب وبقوة على السودان، فالشعب، وعلى مختلف الصعد، يدخل في حالة حوار غير مسبوق، نجد ذلك على مستوى الأحياء، ممثلة في لجان المقاومة التي تتشابك خطوط اهتماماتها وتتعدّد، من الرقابة على الأسواق والسلع التموينية إلى ابتكار أجسام تعاونية للتخفيف من الضائقة المعيشية، إلى الاجتهاد في اختيار ممثلي الولايات المدنيين، لإنهاء ولاية العسكر.

شعبيا أيضا، تنتشر الزراعة وسط المبادرين والمستثمرين الشباب، بأفكار ورؤى جديدة تُحدث تغييرا بطيئا، لكنه في تنامٍ على امتداد الخريطة الزراعية في السودان. حدثني صديق، يعمل ضمن إحدى اللجان التي شكلها وزير التجارة والصناعة، عن حالة من الحماس التي ينفذ بها فريق من الخبراء والمختصين، شكّله وزير التجارة مدني عباس مدني، وهو من شباب الثورة، وانغماس هذا الفريق في بناء "مركز ضخم لقاعدة من البيانات والمعلومات لكل ما يتعلق بالتجارة والصناعة في السودان". وحسب وصف هؤلاء الخبراء، نقلا عن صديقي، إن ذلك سيعني ثورة حقيقية في التجارة، ويقطع الطريق إلكترونيا أمام أكبر شبكات الفساد التي توطّنت عبر السنوات في جسد هذه الوزارة، وعبثت بثروات البلاد وتحكّمت في الصادرات والتجارة بكاملها. بمعنى أن التكنولوجيا سوف تكون الفيصل في عمل الوزارة، ما يجنبها النشاط الطفيلي، ويلغي نمط الممارسة القديمة في السودان. ولعل أهم موجات الحراك وأكبرها شقها الأكاديمي، وقد جسده المؤتمر الذي عقدته جامعة الخرطوم لبحث "مبادرة البناء الوطني والانتقال الديمقراطي". مؤتمر مثل حلقة ضمن سياق الحراك المجتمعي الواسع، والذي يرسم خريطة طريق مستقبلية، وإطارا شاملا للتنمية المستدامة، وصورة الإصلاح الاقتصادي والتنمية المتوازنة المطلوبة في السودان.

أسدل إعلان الولاة الستار وأنهى سلطة حكام الأقاليم العسكريين، ووضعها كاملة بيد الحكام المدنيين

ويبدو أن هذه المبادرة أصابت شيئا في نفس رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، وبحثه المستمر عن مقاربة مختلفة لخروج السودان من الوضع الحالي، الأمر الذي دعاه إلى مخاطبة المؤتمر ودعوته المعنيين من أكاديميين وسياسيين وخبراء، لمناقشة ما سماه "المشروع الوطني الكبير، بشقيه السياسي والاقتصادي، وربطه بالمشروع التنموي، والذي يحافظ على وحدة السودان وتطوره". وذهب الى أبعد من ذلك إلى الدعوة إلى الاتفاق "حول تحديد الملامح الرئيسية للمشروع القومي التنموي للتنمية المستقلة والمستدامة". وهذه الدعوة، في جوهرها، تجسيد لأهم الأولويات التي نصت عليها وثائق تكتل قوى الحرية والتغيير، لتحقيقها في الفترة الانتقالية لرسم ملامح السودان الجديد.

ويتمثل الوجه الآخر لصورة الحراك في الإعلان يوم 22 يوليو/ تموز الجاري عن الولاة الجدد لأقاليم السودان الثمانية عشر. وهو إعلان أثار الجدل من داخل قوى الحرية والتغيير، حاضنة الحكومة، والتي رأت أن الأسماء التي أعلن عنها حمدوك جاءت في بعض منها من خارج قوائم المرشحين المقدمة من القواعد في الأقاليم. وواضح أن حمدوك أراد ترك بصمته، باستخدام حقه في اختيار الولاة من الأسماء المقترحة من القواعد، واختار ولاة لأقاليم دارفور المضطرب ليس فقط لأنهم من أبناء المنطقة، وإنما لخبرتهم المكتسبة من عملهم في المنظمات الأممية في نشر السلام والاستقرار. وفي هذه الخطوة استشراف للمرحلة المقبلة، أي ما بعد اتفاقية السلام والبدء في تطبيق مرحلة بناء السلام والاستقرار والتنمية في تلك المناطق. ولعل الانتقاد الأكبر له جاء من حزب الأمة، بقيادة الصادق المهدي، الذي فاجأه اختيار حمدوك ستة من المنتسبين للحزب، لكنهم من خارج القائمة المرشحة منهم. واعتبرت هذه الخطوة مستفزة من قيادة الحزب، لكن المفارقة أن الاقاليم استحسنت هذا الاختيار. 

قائمة الولاة الجدد ضمت امرأتين للمرة الأولى حدث لا يقل في رمزيته عن انتخاب فاطمة أحمد إبراهيم منتصف الستينيات أول امرأة تدخل البرلمان

والمهم هنا الاعتبار لعامل آخر، أن هذه المجموعة تطلق رسالة من شقين، الأولى خاصة للمهدي، أن ثمة تيارا داخل حزب الأمة، بات يفصح عن نفسه بوضوح، واختار نهج التغيير الذي ينتظم البلاد، وطي صفحة الماضي الطائفية. والثانية أن هذه المجموعة تجسّد حالة من الاصطفاف، تتسع دائرته داخل قوى الثورة من دعاة التغيير الجذري. وهي خطوة ترتبط وبقوة بالإعلان المثير لتجمع المهنيين، قاطرة الثورة، الجسم النقابي، وخروجه من "الحرية والتغيير"، واصطفافه سياسيا مع الحركة الشعبية لتحرير السودان (مجموعة الحلو)، وهي خطوة لا تزال تثير جدلا كثيرا، ولكنها تعبر عن هذا التيار الجديد الذي يعتبر أن الثورة تتعرّض للاختطاف من مجموعةٍ ترفض التغيير الجذري الثوري في السودان، ويقودها المهدي، وبعض الأحزاب الصغيرة، ومجموعات أخرى داخل "الحرية والتغيير". 

والمثير حقا في تسمية الولاة أنها خطوة تاريخية بكل معنى الكلمة، أن القائمة ضمت امرأتين للمرة الأولى في السودان، وهذا حدث لا يقل في رمزيته عن انتخاب فاطمة أحمد إبراهيم منتصف الستينيات، أول امرأة تدخل البرلمان في السودان، وربما على مستوى المنطقة العربية. ويلفت النظر أن تعيين آمال محمد عز الدين وآمنة أحمد المكي جاء في ولايتين (الشمالية ونهر النيل) تضمان اكثر الحركات الشعبية والعمالية تنظيما وتأثيرا في السودان، من الرافضين إنشاء السدود في المناصير وكجبار.

يحتم الوضع المدني الجديد على الحكام المدنيين مواجهة تحدّيات كبرى من توفير الأمن وحل مشكلات المياه والطاقة وتوفير فرص العمل وتحسين الأوضاع المعيشية

وخلاصة القول إن إعلان الولاة قد أسدل الستار وأنهى سلطة حكام الأقاليم العسكريين، ووضعها كاملة بيد الحكام المدنيين، وهذا من مطلوبات الشارع الثوري. ويحتم الوضع المدني الجديد على الحكام المدنيين مواجهة تحدّيات كبرى من توفير الأمن وحل المشكلات المزمنة للمياه والطاقة، الى جانب توفير فرص العمل وتحسين الأوضاع المعيشية، وتعزيز الإنتاج في الأقاليم، وهذا كله ليس قليلا.

0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.