هذه الثورة المضادّة في تونس

هذه الثورة المضادّة في تونس

30 يناير 2020
+ الخط -
المراد بمصطلح الثورة المضادة وجود جماعات، وأفراد، وهيئات تعارض نسق التّغيير، وواقع ما بعد الثّورة، وتسعى إلى تعطيل مسيرة الإصلاح ونهج المساءلة والمحاسبة، وتحاول إحياء عصر ما قبل الثورة بشكل أو بآخر. وذلك لما يمثّله الوضع الجديد من تهديدٍ لمصالحها وتحديد لمجالات نفوذها، فالثورة المضادّة حركة ارتدادية، تروم الشدّ إلى الخلف، وتركّز على تشتيت جبهات التوافق الوطني، وتغذية أسباب التنازع الداخلي، وتبذل جهدها في تحويل معركة ما بعد الثّورة من معركة تنميةٍ وبناءٍ لأسس الدّولة المدنيّة إلى معركة تناحر داخليّ، وصراع هويّاتي، ينخر المجتمع من الدّاخل، ويهدّد بتقويض الوحدة الوطنيّة. وتسعى الثورة المضادة عبر ترويج وعي زائف إلى تيئيس الناس من الثورة، وتبخيس ما أنتجته من مخرجاتٍ حقوقيةٍ ومدنية. والمتابع لحركة الثورة المضادّة في تونس يتبيّن أنّها تشكّلت أساساً من فلول النظام القديم، وبعض رجال أعمال متنفّذين حامت حولهم شبهات فساد في العهد السابق، فضلاً عن بعض السياسيين والإعلاميين والإداريين الذين استفادوا من الممارسات الزبونية، زمن دولة المحاباة ويخشون قيام دولة عادلة.
يمكن القول عمليّاً إنّ دعاة الثورة المضادّة في تونس حاولوا تسع سنوات التأثير في الوعي الجمعي، والتشكيك في مكتسبات الانتقال الديمقراطي، وردّ الناس إلى قفص الدولة الشمولية، من دون جدوى. واشتغل دعاة الشدّ إلى الخلف على ثلاثة محاور بارزة، سعوا من خلالها إلى مصادرة التجربة الديمقراطية الوليدة: التأليب الإعلامي، ومحاولة التأثير في المؤسسة العسكرية، والاستقواء بالأجنبي. على الصعيد الإعلامي، شهدت تونس بعد الثورة حملات تشويه إعلامي، طاولت رموز النضال زمن الدولة القامعة، وجدّت منابر إعلامية صفراء في إحياء الخلافات الأيديولوجية بين رفاق النضال، وفي تغذية أسباب التوتّر والاستقطاب بين علمانيين وإسلاميين، وجرى التهوين من دورهم جميعاً في دحر الدكتاتورية، والإيهام بأنّ الثورة محض مؤامرة
 خارجية. وجرى التلويح بأنّ الديمقراطية لا تنفع، وأنّ سياسة التونسيين بالقبضة الحديدية أصلح، وأنّ الحرّية غير مفيدة، والتعدّدية غير مجدية، والحاجة أكيدة لاستعادة من يسمّونه "المستبدّ العادل". وجرى في السياق نفسه تشويه محمّد بوعزيزي باعتباره أيقونة الثورة التونسية، فتمّت تسميته فوضوياً حيناً، وخارجاً على القانون حيناً آخر. والمراد من ذلك تهشيم صورة الثورة في المخيال الجمعي، بما هي حدث تغييري واعد، ومنجز تاريخي حيّ، مفعم بالرموز والقيم. وفي المقابل، احتفلت وسائل إعلام الثورة المضادّة بوجوه النظام القديم، وجدّت في تبييض رموز الدكتاتورية وسياساتهم الفاشلة. وقدّمتهم أهل خبرة ودراية بدواليب الدولة، ولديهم القدرة على تقديم الإضافة، وتحقيق الاستقرار والازدهار. والمنطق يقول إنّ هؤلاء لو كانوا أهل نزاهة حقّاً لما سكتوا على الاستبداد، ولو كانوا أهل كفاءة حقاً ما انتهوا بنظام الرئيس المخلوع إلى نفق مسدود سياسياً واقتصادياً وحقوقياً. ومع ذلك، جرى تجريب بعضهم في مواقع قيادية بعد الثورة. وتبيّن أنّ جلّهم لم يُقدّم الإضافة المرجوّة.
ومن المفارقات أنّ وجوهاً قديمة، هي سليلة نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، تعود إلى ساحة العمل السياسي الإعلامي، مستفيدة من المناخ الديمقراطي الذي أنتجته الثورة، وأثمرته تضحياتُ سجناء الرأي زمن الدولة القامعة. وبدل أن تنخرط تلك الوجوه في مسار الدمقرطة، ومشروع الدولة المدنية التعدّدية، وتعتذر للنّاس عن تواطئها مع الدولة الاستبدادية، وعن تشريعها هذه الدولة، وترويج أجندتها، وتسلّم بقيمة المنجز الثوري الذي حرّر العقول ورفع الخوف من القلوب، وكرّس التداول السلمي على السلطة، تجدها حريصةً على القدح في الثورة ومخرجاتها، وعلى التشكيك في كلّ شيء، والاستنقاص من قيمة التجربة الديمقراطية، والعمل على إرباك مسار الانتقال السياسي والاقتصادي، وتبخيس الحدث الثوري، واعتباره انقلاباً، والعمل على الدفع نحو تغيير الدستور، قصد الانتقال من نظام برلماني معدّل إلى نظام رئاسوي مطلق، قصد إعادة إنتاج نموذج الدولة الأحادية الشمولية.
ويمكن تفسير الصعود النسبي لهذا التيار المضادّ للثورة بتعثر الأداء الاقتصادي للحكومات المتعاقبة بعد الثورة، وبعدم سنّ المجلس التشريعي قوانين تنصّ على تجريم تبييض الدكتاتورية، وتشتّت الثوار وتراخيهم في بلورة برنامجٍ جامع، موحّدٍ لإدارة مرحلة ما بعد الثورة، وتركهم المبادرة، في هذا الخصوص، لبعض قادة النظام القديم. يضاف إلى ذلك تقصير منظمات المجتمع المدني ومكوّنات المشهد الحزبي في تأهيل الوعي الجمعي لتمثل ماهية الثورة ومتعلّقاتها، ومخاطر الدكتاتورية وسلبياتها، وحتمية الديمقراطية وأهمّيتها في بناء مجتمع تعدّدي، مدني.
وأمام فشل الآلة الإعلاميّة الضخمة، ولوبيات المال والأعمال في تزييف وعي التونسيين، 
وتجييشهم ضدّ الحالة الديمقراطية، اتّجه أعلام الثورة المضادّة إلى المؤسسة العسكرية يخطبون ودّها، وقدّموا قادة بعض الأحزاب التي لا تحظى بعمق شعبي إلى الواجهة الإعلامية لينادوا بزجّ الجيش في المعترك السياسي، وبثّ رسائل تستهدف السلم الاجتماعي وسيادة تونس، وتدعو الجيش إلى الانقلاب على المسار الديمقراطي، والإمساك بزمام السلطة. ولم تجد تلك الدعوة مثل سابقاتها تجاوباً من الجيش التونسي الذي يحظى بتقدير معظم التونسيين لكونه حمى الثورة والحدود والمؤسسات السيادية، وأمّن السيرورة الديمقراطية، والتداول السلمي على السلطة، ولكونه حافظ على مسافةٍ واحدةٍ من كلّ الفرقاء السياسيين.
والواقع أنّ تكاتف التونسيين حول الخيار الديمقراطي، واحتكامهم إلى صناديق الاقتراع في تحقيق الانتقال السياسي عزّز من فشل طروحات الثورة المضادّة التي لم يبق لها سوى الاستقواء، من حين إلى آخر، بالأجنبي طمعاً في شيءٍ من الدعم المادّي أو اللوجيستي أو شوقاً إلى الضغط على صانعي القرار في تونس، ويغيب عن هؤلاء أنّ الاستعانة بقوى خارجية يزيد من انفضاض الناس من حولهم. كذلك يغيب عن أذهانهم أنّ صناعة القرار في تونس الجديدة ليست بيد الحاكم وحده، بل هي بيد جموع المواطنين وهياكلهم التمثيلية.
يمكن القول، ختاماً، إنّ الثورة المضادّة راهنت على الفبركة الإعلامية، وعلى الخطاب الديماغوجي وقلب الحقائق، ففشلت في استمالة عقول تونسيّة واعية، حيّة. وراهنت على التأثير في الجيش، فواجهت مؤسسةً عسكريةً احترافيةً مسؤولة، وراهنت على الأجنبي، فبقيت رهينة له. والحاجة أكيدةٌ لاتحاد القوى المدنيّة الحيّة في مواجهتها، تأميناً للسّلم الاجتماعي وتحقيقاً لدولة مواطنية، ديمقراطية.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.