هجونا طغاةً في صحفٍ لم تُقرأ

هجونا طغاةً في صحفٍ لم تُقرأ

30 ابريل 2018

صيدا رسم فرانسوا بوكيفيل (1770 - 1838) (Getty)

+ الخط -
أمضينا زمناً طويلاً بلا بريد/ بعيداً عن رائحة القرفة ويد الأم المفلطحة/ في زمن الفكرة الكبيرة / وهبوب الغرباء من المفازات والهجير/ لم نودع صكاً في مصرف/ وما عرفنا طريقاً إلى دائرة عمومية/ لم ندفع ضريبة من أي نوع/ ولم نر سُعاةً بثيابٍ موحّدة/ يلقون من كوى الأبواب/ مظاريف ممهورة باسم صاحبة الجلالة./ ولا سمعنا قبضات جباة/ تدقّ بإلحاف أبواباً على النائمين.
هجونا طغاةً في صحفٍ لم تقرأ/ وجعلنا مرهوبي الجانب أضحوكةً في مرابع/ احتملت صعاليك تفانوا في مديح الخريف/ ضربنا أصولاً مرعية عرض الحائط/ وانتشينا في أسرّتنا المجعدة بانتصارات رعاةٍ على الليزر.
أمضينا زمناً منزّهاً من كل قصد ونمنا/ طويلاً/ نمنا/ في الكتب.
***
... وها نحن ندخل صيدا. مضت أربعة عقودٍ على آخر مرةٍ مررت بها. لم تتغير هذه المدينة اللبنانية، ذات التاريخ العريق، كثيرا. هناك كورنيشٌ على البحر. عرباتٌ تبيع قهوة. أناسٌ يتنزهون. نساءٌ بأغطيةٍ على الرأس. لم يكن هذا المنظر مألوفا. رثاثة في البناء. تبدو المدينة من الوهلة الأولى ذات سماحة خاصة، أكثر تواضعاً من بيروت المتطلعة إلى دور المركز التجاري والثقافي للمشرق العربي، وجسره إلى الحداثة الغربية. صيدا تبدو لناظرها أليفةً وممكنةً وأدنى إلى مدينة الشرق القديمة. خصوصا عندما تدخل سوقها المسقوف. هنا تعيش المدينة القديمة. هنا تتمترس الروائح المختلطة: قرفة، هال، صابون، يانسون. المتوسط قريب ومنسرح. القلعة الأثرية، بحجارتها البيض، داخلة في البحر. الحجارة البيض أساسيةٌ في البناء القديم هنا. ندخل صيدا التي تنسبها روايةٌ تاريخيةٌ إلى صيدون بن كنعان بن حام بن نوح، ظهراً الحركة على أشدّها في الشوارع الضيقة.
لم تكن صيدا تعني لي الكثير. لا مقارنة بينها وبيروت. مدينة طرفية. تضخّمت بفعل الهجرة والتهجير من المناطق الجنوبية المحاذية لفلسطين المحتلة. لا صحف تصدر فيها، ولا مجلات، ولا حركة ثقافية باستثناء "المكتبة العصرية" التي أسهمت، في سيتنيات القرن الماضي، في رفد "الحداثة" الأدبية في لبنان. ولعلها تكون دار النشر اللبنانية الوحيدة غير البيروتية التي نالت سمعةً ثقافيةً على الصعيد العربي. فمن منشوراتها قرأنا "قصائد مرئية" لسعدي يوسف و"ماضي الأيام الآتية" لأنسي الحاج وديوان الشعر العربي الذي اختاره أدونيس وقدّمه. أخبرني أدونيس أنه هو الذي أقنع صاحبها الصيداني، وكان يدير مطبعة فقط، أن يتحول إلى النشر، وهو الذي قدّم إلى الناشر مجموعة سعدي يوسف الشعرية تلك ليطبعها، وكانت إطلالته الأولى على الفضاء العربي.
سمعة صيدا عربياً جاءت من احتضانها، في السبعينيات، فصائل المقاومة الفلسطينية، فضلا عن كونها مدينة القائد الناصري معروف سعد الذي أطلق عليه الرصاص، وهو يقود تظاهرة للصيادين في أواخر شهر فبراير/ شباط 1975، وتوفي متأثراً بجراحه بعد نحو عشرة أيام. وشكلت وفاته شرارةً أولى من شرارات الحرب الأهلية اللبنانية. اليساريون اللبنانيون والفلسطينيون اتهموا الجيش اللبناني بتدبير عملية الاغتيال وتنفيذها، لكن الجيش نفى ذلك، ولن تعرف على مسرح القتل الدوار، وجوه كثير من القتلة، بمن فيهم قتلة معروف سعد، وبعده كمال جنبلاط، وقائمة طويلة من الذين صرعتهم "رصاصاتٌ مجهولة".
إنها ملفات الحرب السوداء التي لن تفتح. على ما يبدو، قط. كانت مفارقةً مدهشةً لي أن تموت الناصرية في مصر بعد جمال عبد الناصر، وتنبعث تنظيماتٌ مسلحةٌ في لبنان. فلما اندلعت الحرب الأهلية كانت هناك أكثر من أربعة تنظيمات ناصرية مسلحة كبيرة، سوى بضع "دكاكين ناصرية" تمترست في أزقة بيروت الغربية ذات الطابع الإسلامي السنّي. لم يبق اليوم شيءٌ من ذلك. هذا الزمن انطوى وانطوت، تقريباً، أعلامه. لم تعد ساحة النجمة قلب المدينة النابض الذي يربط، بشبكةٍ من المواصلات، مدينة صيدا بأعمالها من بلدات الجنوب وقراه. وهي بهذا على شبهٍ من "ساحة البرج" في بيروت، من دون أن تكون لها مهابتها.
آخر مرة رأيت فيها "ساحة النجمة" كان هناك برج دبابةٍ سوريةٍ عالق على سطح مبنى. فقد جرت هنا، عند الدخول السوري إلى لبنان، معركة بين القوات السورية الغازية وفصائل المقاومة والحركة الوطنية اللبنانية معركة مشهودة. المفارقة العجيبة أن قائد المعركة من الجانب الفلسطيني كان العقيد أبو موسى الذي دمرت قواته بضع دبابات سورية، وتمكّن من وقف الاقتحام السوري للمدينة، بل دفع قوات حافظ الأسد إلى الانكفاء خارج المدينة، وظل برج الدبابة، إياه، عالقاً بسقف أحد البيوت شاهدا، لا سبيل لدحضه، على ما حدث. لم يلبث العقيد أبو موسى، بطل معركة صيدا، أن وقع في أحبولة الصراع السياسي المرير بين حركة فتح ونظام الرئيس الأسد، فقاد انشقاقاً في التنظيم، غداة الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 تحت شعارات جذابة، تجتلب إليه أنصاراً وشخصيات مؤثرة، وانتهت حركته ورقة من أوراق الضغط السورية على منظمة التحرير الفلسطينية وياسر عرفات. هذه شجون تثيرها صيدا الغافلة اليوم عن الماضي، الممعنة في تدبّر عيشٍ صعب.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن