هجرة الفن تتبع هجرة اللقالق

هجرة الفن تتبع هجرة اللقالق

18 اغسطس 2015
لوحة للفنان الفلسطيني إسماعيل شموط
+ الخط -
من شهر فقط، جاءني صوت صديقي القيّم على بينالي ليون هاتفيًا يخبرني بما لم يخطر في البال؛ خبرٌ "متداول" في فرنسا عن إنشاء فرع لمدرسة الفنون الجميلة بباريس، في المغرب. كان مصدر الخبر صديقته الصحفية التي تعد تحقيقًا عن الأمر. وهو ظنّ أنني لا يمكن إلا أن أملك أسرار الخبر وكواليسه، باعتباري من المتابعين للشأنين الثقافي والفني. اتصلت الصحفية بي، فأخبرتها أن الأمر أشبه بالمفاجأة أو السرّ، وعدتها بإخطارها بمجريات الأمور. قمت باتصالات دلتني على أن لا أحد من "الفاعلين" بالبلد على علم بالأمر.
غاب الأمر عن ذهني إلى أن قرأت في جريدة لوموند الفرنسية (6 أغسطس/ آب) مقالًا بعنوان يؤكّد سرية الأمر: "المملكة المغربية تعمل سرًا على مشروع فرع لمدرسة الفنون الجميلة بباريس في الرباط". افتضح الأمر مصادفة، فقد
قامت وزيرة الثقافة الفرنسية بإقالة نيكولا بوريو (صاحب نظرية الجماليات العلائقية)، مدير المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة بباريس، من منصبه الذي يشغله منذ 2011. ولم يجد هذا الأخير من حجة للدفاع عن سنوات إدارته للمدرسة أفضل من "الحديث" عن مشروع فتح فرع للمدرسة الشهيرة في الرباط. فقد كان الوحيد، أو بالأحرى، من القلائل العارفين بالأمر. والأمر حين يظلّ سريًا مدة طويلة، فإمّا لأنه قد قُبر في مهده، أو لأنه مشروع يبتغيه الملك لبلده بسرية كاملة. بيد أن الاحتمال الثاني أقوى، لأسباب عدّة: أوّلها يعود إلى أن فكرة "استنبات" المدرسة الباريسية في الرباط تعود إلى المغرب، لا إلى رغبة مدير تلك المدرسة. وما يؤكد هذا، أن إحدى المؤسسات المغربية المالية الخاصة، تحوم منذ شهور، حول الفكرة وتسعى إلى منح الرباط مدرستها، ضمن إطار مشروع حضاري وثقافي كبير تعرفه منطقة أبي رقراق، التي ستحتضن مسرحًا هائلًا تشرف على إنجازه المعمارية العربية والعالمية الشهيرة زها حديد.

اقرأ أيضاً: شفيق عبود.. الفنان الذي أحرقه وهج النور

يبرر الناقد الفني والمدير السابق هذا المشروع: "لا توجد في المغرب مدارس جدّية للفنون إلا في مدينة تطوان. والتكوين في هذا المضمار ذو مستوى ضعيف، بينما يمكن عدّ إفريقيا تجمعًا لمواهب مدهشة وخارقة". صحيح أن المغرب، مقارنة مع الجزائر وتونس وبلدان المشرق، لم يعرف التكوين المحلي إلا منذ أواسط الأربعينيات، مع إنشاء مدرسة الفنون الجميلة بتطوان، وصحيح أيضًا أن أغلب الفنانين المغاربة درسوا في مدارس باريس وبرشلونة ومدريد وغيرها. بيد أن الحركة الفنية المغربية تعدّ إحدى أهم الحركات الفنية العربية، رغم قصر تاريخها. حدّ أني قلت مرّة مازحًا: ربما تعود قوة التجربة المغربية إلى ندرة مدارس التكوين بالمملكة.
هذا الضرب من "الاستنبات" بدأ منذ عقد، وصار يهمّ فروعًا كاملة أو غير مكتملة (بشروط محلية) للجامعات الشهيرة والمدارس العليا الكبرى في كندا وأميركا وفرنسا، لتنجزه في العديد من البلدان العربية، ومن بينها بلدان المغرب العربي. وهي مؤسسات تعليم عالٍ خصوصي، وكانت تتمتع برخصة من وزارة التعليم العالي. إلا أنها اليوم صارت تتمتع (لظروف واعتبارات يصعب الخوض فيها هنا) بشراكة مع الوزارة ومع التعليم الحكومي.
الأمر، لمن يجهل ذلك، ليس بالجديد. فمنذ عقود عديدة، أُنشئت في بعض الدول العربية، الجامعة الأميركية في بيروت والقاهرة، وكانت مصدرًا لتكوين النخب السياسية العربية. ثم جاء زمن "استنساخ" العديد من المؤسسات التربوية والمتحفية الغربية والفرنسية خصوصًا، في بلدان الخليج وبخاصّة في الإمارات العربية المتحدة. وقد أسال الأمر، من سنوات، ما أسال من مداد ومن لعاب. غير أن هذا الاستنبات أو "الزرع" بدأ يعطي أكله، فجامعة السوربون، كما متحف اللوفر، صارا تدريجيًا يشكّلان جزءًا من معالم واستراتيجيات هذا العالم المتسارع النمو في كلّ المجالات. كما أن الإصرار على أن يكون الطاقم المسيّر، كما الطاقم التربوي لهذه المؤسسات، منتميًا للبلد المصدّر، يجعلها أشبه بالجزر الافتراضية التي يدخلها الواحد من غير حاجة للتأشيرة أو السفر.
في هذه العملية التي تستحضر التجربة التعليمية والمتحفية إلى فناء الدار، ما الذي نربح وما الذي نضيّع؟ أليس الأمر ضربًا من عولمة ثقافية تمحي الفروق والاختلافات الثقافية وتسعى إلى توحيد وتنميط التفكير والإنتاج والإبداع، وتعميم النماذج الثقافية؟
إذ إننا حين نتخلى عن المغامرة وارتياد البلدان الأخرى للدخول إلى السوربون أو مدرسة الفنون الجميلة بباريس أو روما، ألسنا بشكل أو بآخر مثل ذلك الشخص الذي يتعلّم قيادة السيارة في برامج مصورة وتفاعلية؟ طبعًا في هذه المقارنة بعض الإجحاف، كما في الخوف من تعميم النماذج الثقافية، ضربٌ من الخوف والانطواء وعدم الاعتراف بهشاشة "نموذجنا" الثقافي.
ما سنفْتقده (من غير أن نفقده تمامًا)، هو ما يحيط بالتجربة التعليمية، من علاقة بالآخر في داره، وبثقافته وحضارته، أعني التسكع في رحاب باريس أو روما أو بوسطن، وما يفرزه ذلك من هجانة ثقافية وعلاقات تتمسّك بالبشرة كعبق العطر. سوف لن نكتب أبدًا معادِلًا لكتب من قبيل: "عصفور من الشرق"، أو "موسم الهجرة إلى الشمال" أو "الحي اللاتيني".
لنعدْ إلى استحداث فرع لمدرسة الفنون الجميلة بتطوان؛ إنه اعتراف بضعف مستوى نظامنا التعليمي الفني من جهة، وعولمة إكراهية (ومصلحية) واستثمارية تمجد النموذج الغربي في التعليم من جهة أخرى (وهو تمجيد له أساسه وصدْقيته)، وتجعل مجال الفنون مجالًا استثماريًا بامتياز في الظروف الحالية. إنه رهان مزدوج: يقرّب من جديد بين فرنسا والمغرب مرة أخرى في المجال الثقافي بعدما أصبح العالم الأنجلو أميركي مستقرًا في التطوّرات التعليمية التي تعرفها المنطقة الفرنكوفونية. إلا أن الأمر من ناحية أخرى يفتح مجال الفنون البصرية على سوق الاستثمار في شمال إفريقيا، بل في إفريقيا بكاملها. إنه رهان مزدوج، يتطلب تحليلًا مزدوجًا أيضًا. وهجرة مزدوجة تتبع مسير اللقالق.

المساهمون