هؤلاء لا يسمعون صوت القذائف في سورية

هؤلاء لا يسمعون صوت القذائف في سورية

28 ابريل 2018
غارة جوية بلغة الإشارة بحي الميدان بدمشق(جوزيف عيد/فرانس برس)
+ الخط -
كأن أهوال الحرب التي مرّت على مدينة إدلب لم تمرّ على ابنة المدينة، فطوم الحياني. لم تغادر الحياني المدينة حتى اللحظة، وابتسامتها لا تفارق وجهها حين تتحدث بصوت مرتفع، فهي لا تستطيع تقدير مدى سماع من حولها لحديثها، والذي يبدو وكأنه حديث من عصر ما قبل الحرب. الحياني ستينية أصيبت في عام 2009 بمرض السحايا ونجت منه، إلا أنها فقدت حاسة السمع بشكل نهائي. تجيب الحياني على تساؤلات "العربي الجديد" بذات الابتسامة وبحيوية قلّ أن تشعر بها لدى مثيلاتها من نساء الحي الذي تقطن فيه، وسط مدينة شهدت أسوأ سيناريوهات الحرب السورية. تقول: "شاء الله أن يفقدني حاسة السمع، لأنه يحبني ولا يريد لي أن أسمع ما يجري حولي من أهوال كان من الممكن أن تفقدني عقلي في حال سمعتها".

لم يكن فقدان حاسة السمع نعمة بالمطلق في زمن الحرب. صحيح أن الحياني لا تسمع ولكنها ترى ما يجري. كما أن نعمة عدم إحساسها بالرعب الناتج عن أصوات الانفجارات والصواريخ ودوي صفارات الإنذار هو بذات الوقت مشكلة أوقعتها بمخاطر كادت تودي بحياتها.




يقول ابنها محمد الصادق لـ"العربي الجديد": "في أحد أيام القصف على مدينة إدلب دوّت صفارات الإنذار وهرع الناس جميعاً إلى الأقبية، وحضرت مسرعاً إلى البيت وتمكنت في آخر لحظة أن أسحب أمي إلى القبو قبل أن تنفجر قذيفة في باحة الدار، على مسافة قريبة من المكان الذي كانت تقف فيه، دون أدنى شعور منها بخطر ما كان يحصل". يتابع الصادق: "في البيت أثناء فترة القصف على إدلب يكون الحديث كله عن الرعب من الآتي، فيما تكون أمي في عالم آخر تتحدث عن أشياء أخرى فتشعرك وكأنها خارج الحرب وويلاتها. في هذه الحالة فقط نحسدها على عدم سماعها لما يجري على الأرض من قصف ودمار، ولعدم سماعها ما يحاك للبلد الذي في ما لو سمعته ستصاب حتماً بالاكتئاب".

تسببت الحرب الدائرة في سورية بزيادة عدد الصم بسبب فقدان السمع نتيجة إصابات مباشرة، كذلك ارتفعت الإصابات السمعية بسبب عصف الانفجارات الهائلة التي تعرض لها سكان المناطق الساخنة. مع ذلك لا توجد حتى الآن أرقام موثقة لعدد الصم الفعليين ولا نسبة الزيادة التي طرأت عليهم، بسبب غياب الجهات المعنية.

خلف الباب
أمل هورو خمسينية من مواليد منطقة عفرين ومن سكان حي الأشرفية في حلب. فقدت سمعها بشكل نهائي مع بداية الثورة السورية إثر معاناة مع مشاكل مزمنة في الأذن الداخلية تسببت في موت العصب السمعي. لا يختلف وضع أمل كثيراً عن وضع فطوم الحياني فقد عايشت فترة القصف على الحي بطمأنينة. تشكو أمل من عدة أمراض تمنعها من التجوّل المستمر في الحي لترى الدمار الحاصل. يقول شقيقها سليمان لـ"العربي الجديد": "حين تسقط القذيفة على مسافة قريبة جداً وتهتز أبواب البيت من عصفها، تكون ردة فعل أختي مختلفة عن كل ردود أفعالنا. فبينما نكون متسمّرين خوفاً من أن تصيب القذيفة بيتنا، تظنّ أختي أن هناك من يطرق الباب، وتطلب منا أن نرى من خلف الباب". يتابع سليمان: "حتى حين قررنا النزوح من حي الأشرفية إلى قريتنا في قضاء عفرين، بسبب شدة القصف، اعتقدت أمل أننا ذاهبون في نزهة، للاحتفال بعيد النوروز في القرية. لم تشعر أبداً بخطورة ما يجري".

جدير بالذكر أنه رغم المعاناة الكبيرة التي ترافق الأصم إلا أن المنظمات الإنسانية لم تبد كثير اهتمام بحالات الصم والبكم في سورية، وذلك بسبب أن الكثير من الحالات غير قابلة للعلاج، وتحتاج إلى مراكز تأهيل تساعد على التأقلم مع المجتمع، وهذا غير متوفر في زمن الحرب. كما أن هناك إصابات وإعاقات تتطلب تدخلاً سريعاً، وهي ما تتم معالجتها ضمن الإمكانيات المتاحة.




غبار القذيفة
في ربيع عام 2013 زارت صحافية فرنسية من أصل سوري مدينة إدلب، وتعجّب يومها مستقبلوها في مدينة بنش شمال سورية من شجاعتها، وقد علّق أحد الذين استضافوها: "رغم تعوّدنا على القصف شبه اليومي للمدينة الا أننا بقينا نشعر بالخوف من أصوات القذائف، غير أن ضيفتنا لم تكن تبدي أي خوف منها. لاحقاً، ومن خلال الحديث معها، اكتشفنا أن سمعها محدود جداً ولم تكن تسمع أصوات القذائف". يتابع الشاب نفسه: "في إحدى المرات التي كنت أرافقها فيها إلى مدينة كفرنبل (جنوب إدلب) سقطت قذيفة على أطراف الطريق كادت تفقد السائق السيطرة على السيارة. كان الغبار الذي خلفته القذيفة كثيفاً. في تلك اللحظة بالذات كانت الصحافية الفرنسية أكثرنا رعباً. وصرنا نحن الذين كنا نثني على شجاعتها نهدئ من روعها، إذ كانت في حالة وكأنها المرة الأولى التي تشهد فيها سقوط قذيفة".