بدأ عهد مدين (76 عاماً) فعلياً، بعد دفعه، مع قيادة الجيش، الرئيس الشاذلي بن جديد إلى الاستقالة في يناير/كانون الثاني 1992، مُنصِّباً الرئيس محمد بوضياف، الذي قُتل على يد أحد عناصر الحرس الرئاسي التابع للاستخبارات في يونيو/حزيران 1992. عمل مدين على ترسيخ حكم الرئيس علي كافي، وبعده الرئيس اليمين زروال، الذي دفعه جهاز الاستخبارات لاحقاً عام 1998 إلى الانسحاب، والإعلان عن انتخابات رئاسية مسبقة، أدى فيها الجهاز الدور الأبرز في وصول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى السلطة.
وخلال كل هذه الفترة، احتفظ مدين لنفسه بسطوة وصورة أسطورية، ومُنعت الصحافة من نشر أي صورة له، ولم تكن صوره متوفرة أساساً. كما كان جهاز الاستخبارات خلال عقد التسعينيات، جزءاً من محظورات النشر والحديث السياسي.
لكن التحوّلات التي رافقت ثورات الربيع العربي، معكوسة على المستوى المتواضع من الانفتاح والإصلاح السياسي في الجزائر، أتاحت لجهات عدة بدء الحديث عن إصلاح الأجهزة الأمنية، وعن دور جهاز الاستخبارات في المشهد السياسي. وكان لافتاً أن الإشكالات التي بدأت تلوح بين بوتفليقة وجهاز الاستخبارات، قسّمت السلطة إلى فئتين، وانسحب هذا الانقسام على الجسم السياسي والأحزاب الموالية للسلطة، وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2014.
اقرأ أيضاً: في معنى أن تكون جزائرياً
وكان واضحاً أن قرار تنحية مدين مرتبط بالمعركة السياسية التي اندلعت في الكواليس، قبل إعلان بوتفيلقة ترشحه لولاية رئاسية رابعة العام الماضي. وقد كان جهاز الاستخبارات يرفض ترشّح بوتفليقة، بسبب الوعكة الصحية التي ألمّت به في أبريل/نيسان 2013، والتي لم تعد تسمح له، وفق تحليل الجهاز الأمني، بقيادة شؤون البلاد.
وعدا عن السبب الصحي، بات الجهاز يشعر بأن بوتفليقة نجح في بسط سلطته في مختلف الاتجاهات السياسية والمدنية والأمنية، معتقداً بأن الرئيس الجزائري بات متحكماً في مختلف قطاعات السلطة السياسية والأمنية والمدنية.
لكن الاستخبارات فشلت في قطع الطريق على ترشّح بوتفليقة، بعدما نجح الأخير في استمالة قيادة أركان الجيش لصالحه، والحصول على دعم الصف الأول منه. وهي القيادة التي عمل بوتفليقة على دفعها إلى رأس الهرم العسكري، مُبعداً جنرالات الجيش الذين أتوا به رئيساً، كقائد أركان الجيش السابق محمد العماري، والجنرال العربي بلخير ومحمد تواتي وغيرهم.
ويرى المحلل بوعلام غمراسة، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "إقالة مدين لم تكن مفاجئة، أقلّه في نظر متتبعي الجدل الدائر بين الرئاسة والاستخبارات". ويضيف أن "أول مؤشر ظهر على قرب موعد نهاية مدين على رأس الاستخبارات، تجلّى في غضب بوتفليقة من الأمر الدولي بالقبض على وزير الطاقة الأسبق شكيب خليل، الذي كان نتيجة لتحقيق أجراه جهاز الاستخبارات في ممارسات فساد بشركة النفط الجزائرية الحكومية سوناطراك".
ويعتبر غمراسة أن "المؤشر الثاني برز في انتقاد الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني عمار سعداني، لمدين، فلو كان مدين لا يزال فائق القوة والنفوذ، ما كان بقي سعداني لحظة واحدة أميناً عاماً للحزب، بعد الذي قاله في حق قائد جهاز الاستخبارات". وكان سعداني قد قال في فبراير/شباط 2014، إنه "كان على الجنرال مدين الاستقالة بعدما فشل في حماية الرئيس محمد بوضياف وحماية عبد الحق بن حمودة (الأمين العام لاتحاد العمال)، كما فشل في حماية رهبان تيبحيرين وقواعد النفط في الجنوب وموظفي الأمم المتحدة".
مدين لم ينتهِ وحده، فقد سبقته إزاحة عدد من كوادر جهاز الاستخبارات كالجنرال رشيد العلايلي (عطافي)، ومدير الأمن الرئاسي علي بن داود، والجنرال عبد القادر آيت وعراب (حسان)، المكلّف بوحدات مكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى تنحية قائد الدرك الوطني الفريق أحمد بوسطيلة قبل يوم واحد من تنحية مدين.
وعُدّت هذه التغييرات جزءاً من سلسلة التغييرات العميقة التي يجريها بوتفليقة في الجيش والمؤسسات الأمنية منذ عام 1999. وقد بدأ بوتفليقة منذ ولايته الرئاسية الأولى، بالتوجّه بمواقف ضد جنرالات الجيش في خطاباته. وتوّج ذلك بخطابه الشهير في سبتمبر/ أيلول 1999 خلال حملة الاستفتاء على قانون "الوئام المدني"، والذي قال فيه للجزائريين: "اسألوني عن الـ15"، وكان يقصد الجنرالات الـ15 في الجيش، الذين يتحكّمون في صناعة القرار وفي الاقتصاد الجزائري. كما كان يردد في مسألة دعمه ضد الجيش: "لا تتركوني مثل الصياد الذي قيل له اذهب لتصارع الأسد، فإن فاز صفقوا له، وإن فاز الأسد صفقوا للأسد". وكان لافتاً أيضاً تصريحه الشهير أنه "لن يقبل أن يكون ربع رئيس في يد المؤسسة العسكرية"، فضلاً عن تصريحه بأنه "لم يقبل أن يمسك مسدساً فارغاً من الرصاص".
ويعتبر عدد من المحللين أن "التغييرات الأمنية لا تعبّر بالضرورة عن رؤية للتغيير أو سلطة قرار، باعتبار أن بعض التغييرات لم تمسّ سوى أسماء تم استبدالها بمعاونيها". وفي السياق، يقول المحلل أحسن خلاص لـ"العربي الجديد": "لا أعتقد أن إعادة ترتيب البيت تمرّ حتماً على مجرد تغيير الأشخاص على رأس المؤسسات الأمنية، والدليل أن الرجلين الثانيين في جهازي الاستخبارات والدرك توليا منصبي القيادة". وقد تولّى قيادة جهاز الاستخبارات الجنرال عثمان بشير طرطاق، بدلاً من مدين. وكان طرطاق يشغل سابقاً منصب مسؤول قسم مكافحة الجاسوسية في الجهاز، لكن بوتفليقة أقاله من منصبه قبل ستة أشهر، لإعادة تعيينه كمستشار أمني في الرئاسة. وظهر لاحقاً أن الأمر لم يكن سوى عملية استمالة لطرطاق إلى صف الرئاسة على حساب مدين. وتشير هذه التغييرات إلى سيناريو واحد، يتعلق باستحقاقين رئيسيين: تعديل الدستور بالصيغة التي يريدها بوتفليقة من دون اعتراض أي طرف أمني أو سياسي، كما يجعله يطمئن على مستقبل خَلَفَه الرئاسي.
اقرأ أيضاً الجزائر: لا قروض خارجية رغم تدهور أسعار النفط