ننطق عن الهوى

ننطق عن الهوى

06 اغسطس 2016

تشارلي شابلن في مشهد من فيلم الدكتاتور العظيم (Getty)

+ الخط -

حين هاجر تشارلي شابلن، وهو صغير السن من بريطانيا، بلده الأصلي، إلى أميركا، لم يكن أحدٌ يتوقع له هذا النجاح، وتلك الشهرة العالمية التي أمّنتها له موهبته الاستثنائية، وصناعة السينما الأميركية معاً. حسناً، ليس هذا المهم، ممثلون كثيرون غير الأميركان صنعت السينما الأميركية شهرتهم العالمية، المهم أن تشارلي شابلن عاش في المجتمع الأميركي، في فترة تغوّل النظام الرأسمالي في المجتمع. عايش كل أشكال العنصرية، ضد السود وضد النساء وضد الشيوعيين القلائل تلك الفترة، شاهد كيف يطحن النظام الرأسمالي البشر، وكيف يفرزهم طبقياً، ويجعل من المجتمع مجرد  تجمعاتٍ، لا يمكنها الاختلاط والتعايش بسهولة، ليس فقط بسبب العنصرية، بل بسبب ما يتركه الفقر والشعور بالنقص والظلم من آثار سلبية على أصحابه.

هذه المعايشات نقلها تشارلي شابلن في أفلامه بعذوبةٍ مطلقة، وكأن اختياره الصامت في أفلامه نوعاً من الاحتجاج ضد كل ما يراه، فلتتكلم الكاميرا، وليعبّر الجسد الإنساني بحركاته عن كل الغضب تجاه ما يحصل، فالصعلوك والمتشرّد الذي اختاره شابلن شخصية دائمة له هو الأحق بالتعبير عما يحصل في المجتمع.

حسناً أيضا، ليس هذا غريباً. قدّم تشارلي شابلن فنه العظيم، منتقدا نظام البلد الذي هاجر إليه عبر شاشات سينما ومسارح هذا البلد نفسه، أنتجت أميركا أفلامه، وصنعت شهرته العالمية، وسهّلت له نقل أفكاره واحتجاجاته إلى الشعب الأميركي وإلى العالم أجمع، ومنحته المرتبة العاشرة في ترتيب معهد الفيلم الأميركي، قدم أفلامه العظيمة هناك، أضواء المدينة والأزمنة الحديثة.

وعلى الرغم من اضطراره للعيش في أوروبا طوال فترة المكارثية الأميركية، إلا أن أحداً من الأميركيين لم يتعامل معه بوصفه غريباً عن المجتمع الأميركي، لم يقل له أحدٌ ما: لا يحق لك انتقاد النظام الذي استقبلك، وساهم في صناعة شهرتك! ما عاناه تشارلي شابلن، البريطاني الأصل، في أميركا، في تلك الفترة المضطربة، هو ما كان يعانيه أي ممثل أو مبدع أميركي يؤمن بالأفكار نفسها، لم ينزع عنه أحد ما تاريخه في الحياة في المجتمع الأميركي، على الرغم من أن أميركا لم تكن في تلك الفترة في أحسن أحوالها، بل العكس تماما، كانت منغمسةً بالصراعات السياسية والدينية والعرقية.

قبل أيام يكتب صديق شاعر فلسطيني سوري على صفحته على "فيسبوك" انتقادا مبطنا للجيش السوري. ولد الصديق في أحد المخيمات الفلسطينية في سورية، وعاش حياته هناك. عانى ما عاناه أبناء جيله من السوريين قبل الثورة. وبعدها، اقتحم الجيش السوري بلدته، وتم قصفها بالطائرات والصواريخ النظامية. اعتقل شقيقه واستشهد تحت التعذيب في سجون النظام. تشردت عائلته، وتوزعت في بلاد العالم، مثل غالبية السوريين. يدخل صحافي سوري موال للنظام على صفحته، ويترك عنده التعليق التالي: دع سورية وشأنها واهتم بفلسطين!

صديقة كاتبة عربية عاشت عمرها في بلد عربي آخر. عاصرت كل التقلبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في هذا البلد، تخبرني أنها تشعر بأنه بلدها. وعيها وذاكرتها تشكلا فيه. ومع ذلك، لدى أي تدخل لها في أي شأن سياسي من شؤون هذا البلد، ثمّة من يمرّر لها من أصدقائها، من مثقفي هذا البلد، أنها تتدخل بما لا يعنيها، وبما لا شأن لها به.

يحدث هذا كثيرا في بلادنا العربية، وليس فقط من الأنظمة وأدواتها الأمنية، بل من النخب التي أفرزتها هذه الأنظمة. والمدهش أن ساحبي حق الآخرين في مناهضة نظامٍ ما، بذريعة أنهم ليسوا من أهل البلد، يمجّدون الغرباء الذين يمدحون هذه الأنظمة، بل ويطالبون بمنحهم جنسية البلد نفسه. يحدث أيضاً في بلادنا العربية أن يُطالب مواطنون ونخب بسحب جنسية مواطنين لهم، لاختلافهم معهم في الرأي السياسي. يحدث أيضاً أن يتم تشويه سمعة أحد من أبناء البلد، لأنه انتقد ظاهرةً دينيةً ما تؤمن بها الغالبية. وإن كان من دينٍ أو مذهب آخر، فلا مانع من قتله معنوياً إنْ لم يكن مادياً. وهكذا، يوماً بعد يوم، نصرّ على إظهار الفارق الحضاري بيننا وبين العالم الذي نعتبره سبباً في مصائبنا وتخلّفنا، من دون أن نعترف بأن هذا العالم ينطق عن المنطق الإنساني، بينما ننطق نحن عن الهوى. 

دلالات

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.