نموذج لحياةٍ بديلةٍ في مدن سورية

نموذج لحياةٍ بديلةٍ في مدن سورية

30 سبتمبر 2014

أحد أسواق مدينة اللاذقية السورية الساحلية (19مارس/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

في المدن السورية البعيدة جغرافياً عن ساحات النيران، إلاّ من معارك تندلع في محيطها، أو بعض مناطقها الريفية الحدودية مع محافظات أخرى، كاللاذقية مثلاً، هناك حياة أخرى جديرة بالتأمل والتدقيق والدراسة.

مدينة تتخلق مثل فطر نشط مصاب بطفرة، نهم إلى الحياة والتكاثر والتبرعم، تتبارى وتتزاحم في شوارعها الضيقة وتفرعاتها وأزقتها السيارات والمارة، فلا الأرصفة تختص بالمشاة، ولا الشوارع تكتفي بالسيارات. الضجيج والصخب يستعمر الجو، ويمزّق غلالة سوداء تغلف المدينة من عوادم السيارات، أصوات الأبواق ومولدات الكهرباء تشتبك بألسنة الناس، عديدة اللهجات، تسمع في شوارع اللاذقية كل اللهجات السورية، أكثرها اللهجة الحلبية، وترى الأزياء المختلفة، تلك التي تحمل طابعاً محلياً، يخص بعض المناطق السورية، وغيرها ممّا يتشابك بعلاقة ما بالدين، أو ببيئة ثقافية محافظة.

المدينة تزدحم، أيضاً، بالمقاهي والمطاعم والمحلات التجارية، أكثرها أُنشئ في ظل ازدهار الفساد والمخالفات، صار كل شخص يملك بيتاً في طابق أرضي، أو طابق أقرب إلى الأرضي، يحوّله، في غفلة من القوانين والجهات الرقابية المسؤولة، إلى مقهى أو مطعم أو محل تجاري. المقاهي عامرة بالرواد والنراجيل، والمطاعم بمختلف مستوياتها عامرة بالرواد، مثلما هي المنتجعات، خصوصاً تلك المفتوحة على بحر اللاذقية في موسم السباحة والصيف، وفي المقابل، ينتشر المتسولون بكثرة في الشوارع.

الأسواق مليئة بالبضائع، لم تنقطع المنتجات التي تأتي من المحافظات الأخرى، حتى التي لم تعد تحت سيطرة النظام، تأتي البضائع من كل المحافظات، من الرقة من حلب من حمص من إدلب من درعا من دمشق، من كل مكان في سورية.

وفي المقابل، تفترش الأرصفة بسطات تعرض سلعاً أخرى، سلع مجهولة المصدر، بلا أي نوع من الرقابة أو المعايير، بسكويت ومنتجات غذائية مصنعة للأطفال، تعرض في أكياس كبيرة بلا تغليف، ولا تاريخ صلاحية، ولا خاتم رقابة، ولا ما يشير إلى صلاحيتها للاستخدام البشري، مواد غذائية للاستهلاك والمؤن، معروضة بصناديق معدنية، أو أوعية بلاستيكية، أو أكياس خيش أو نايلون، دفاتر وأقلام وقرطاسية في موسم المدارس، كتب بعناوين متنوعة ومتباينة، أحذية وملابس رخيصة.... أي شيء يحتاجه المواطن سوف يجده بطريقة أو بأخرى، على الأرصفة أو في المحلات، بتواطؤ صامت وأخرس، حول السؤال عن المصدر. حياة اقتصادية مزدهرة، لها قوانينها الناظمة اللامرئية.

في المقاهي، سوف ترى التنوع والاختلاط، مقاهٍ كان بعضها يقتصر على الرجال فقط، صارت اليوم مختلطة، واللافت تنوع روادها، فترى الفتاة السافرة بلباسها الصيفي المميز المتحرر على طاولة ملاصقةٍ لأخرى تجلس حولها سيدة منقبة، وقد ترى طاولة تجمع الاثنتين معاً. ترى الشباب بأزيائهم العصرية جداً مع الشباب، بلباسهم المحافظ ولحاهم الطليقة. تسمع مكبرات الصوت تصدح بالآذان، وفي المقابل، هناك مكبرات أخرى، تصدح بالأغاني من مختلف المستويات.

معظم المشكلات الحياتية أو الإجرائية التي يمكن أن تعترض المواطن، يمكن أن يُعثر على حلّ لها، متكئين على أكتاف الأزمة، ومستفيدين من الفساد، وقابضين الأجر مسبقاً، أو لاحقاً، لا فرق، طالما أن هناك اتفاقاً ضمنياً، تفرضه الظروف، وتلزم الأطراف به.

المدارس مكتظة، حتى تلك التي تُصنّف خاصة، إنما تحت إشراف وزارة التربية، فقد منحتها القوانين الناظمة مساحة أرحب من الحرية، في استيعاب الأطفال، كذلك في ظل الأزمة. مدارس تضم خليطاً متنوعاً من التلاميذ، ينتمون إلى بقاع الوطن السوري كاملاً، يدرسون المناهج ذاتها "التي لا زالت تكرّس قيماً تربوية ومفاهيم شمولية، وتمنح القدسية للرموز والأشخاص، من خلال كتب التربية الدينية والوطنية والقومية، على الرغم من الكوارث التي لحقت بسورية، من جراء هذه الأفكار المغروسة في نفوس أجيال، وهذا النمط من إعداد الكوادر".

أما المشكلة السكنية، فقانون الظل والتدابير الإجرائية التي يستنبطها الناس من واقع الأزمة، ويعتصرها التجار من جسد الوطن، سوف يقدم حلولاً لها. كل من لديه سطح لبيت، مهما كان عمره، أو تنفيذه الفني، سوف يعمّر فوقه طابقاً أو ملحقاً، أو عدة ملاحق في غفلة مقبوضةٍ مسبقاً من ضابطة البناء، والسطو على الملكية العامة من أراضٍ، يمكن إشادة أبنيةٍ عليها، سهلٌ في ظل التسهيلات الخفية التي تتكئ على الأزمة أيضاً، حمّى العقارات في ارتفاع، طالما سوق العرض والطلب يشير إلى ازدياد الطلب، الإيجارات تفوق الخيال، لكن الحياة متطلبة وتعرض الحلول، الكائن البشري من صفاته التأقلم، قد تسكن عائلات عديدة في شقة صغيرة، تُسخّر أرضها للفرش، من أجل النوم ليلاً، وللخدمة نهاراً.

في ظل الأزمة، ينشأ مجتمع يعاند الموت ويقتحم الحياة التي تحفر أنفاقها، وتقنص فرصها، الأفراد يتعلمون العيش والتعايش في إيقاع مبتكر، وبلوائح ناظمة تنبثق من القاع، من القاعدة العريضة، تفرض قوانينها التي تتمتع بسطوةٍ، كانت تفتقر إليها القوانين في المرحلة قبل الأزمة.

هذا النموذج من الحياة المتخلّقة في رحم الأزمة يستدعي الدراسة والتمحيص، والبحث عن نواة ثقافةٍ بديلة، يمكن أن تؤسس لمجتمع المستقبل في المدن السورية، كما يطرح سؤالاً أكبر: طالما استطاع الناس إيجاد نموذج للحياة، يتعايشون في ظله، على الرغم من تعدد هوياتهم الثقافية وانتماءاتهم المتباينة، فلماذا أظهرت الأزمة في مناطق عديدة هشاشة المجتمع السوري، ونخره بأسباب الفرقة والتفرقة؟ هل يمكنهم الاستمرار في هذا النموذج من العيش والتعايش، بعد همود الإعصار السوري؟ وهل يمكن لحياةٍ تأسست، وفرضت قواعدها على أرضيةٍ من قانون اعتباطي، تفرضه غريزة البقاء بأقل قدرٍ من التدبير العقلاني والعلمي، أن تصمد أمام التأسيس لمرحلةٍ، تقوم على أساس القوانين الأكثر عقلانية والضامنة لحياة مجتمعيةٍ، تبنى على أرضية مستقرة وصلدة؟ هل هذا النموذج من إدارة الحياة، يمكنه أن يتخلى عمّا اكتسبه من شرعيةٍ، فرضها الأمر الواقع، حتى لو كان من أجل بنيان مستقبلي، أكثر قدرة على الصمود والتطور؟ وهل ما نراه اليوم من صور العيش المشترك والتعايش المنتج يمكن أن يستمر مستقبلاً؟ كل هذه الأسئلة مرهونةٌ بما سيؤول إليه الوطن السوري، بعد هذه التجربة الباهظة.

سوسن جميل حسن
سوسن جميل حسن
سوسن جميل حسن
كاتبة وروائية سورية.
سوسن جميل حسن